رحلات ثقافية في قلب الدبلوماسية

قبل أيام، استمتعتُ بتسيير لقاء علمي همَّ موضوع “الدبلوماسية الثقافية في مواجهة التطرف”، نظمه المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات، بشراكة مع وزارة الثقافة والاتصال المغربية. وكان أمرا ممتعا أن يعكس النقاش وطبيعةُ المتدخلين هاجس البلد الذي يكمن في جعل الثقافة في قلب دبلوماسية ناعمة، بشكل ينسجم مع التحولات التي يعرفها العالم ومعه تقاطباته الجديدة.
والحقيقة أن الأمر ليس جديدا. إذ تبدو جذور الدبلوماسية الثقافية ضاربة في القدم. ولعل الرحلات السفارية تشكل أهمها، وهي التي كانت تتم في لحظات لم يكن العالم خلالها يوفر شروط العمل الدبلوماسي بمفهومه الحديث. كان مدهشا أن يحفل التاريخ الدبلوماسي العربي، والمغربي خاصة، بعدد كبير من الرحلات السفارية، التي يشكل الجانب الثقافي جانبها الأساس، خصوصا مع ما خلفته الرحلات من نصوص.
خلال نهاية القرن العاشر الهجري، كلف السلطان المغربي أحمد المنصور الذهبي، الفقيه علي بن محمد التمكروتي، ومعه الكاتب محمد بن علي بن أبي القاسم بالسفر إلى الخليفة العثماني مراد الثالث وتبليغ رسالته. ولعل هذه المهمة تشكل إحدى أوائل المهمات السفارية التي عرفها المغرب بشكل مبكر، اعتبارا لخصوصية موقعه الجغرافي الذي يشكل موئل تقاطع بين أوروبا والمشرق وبقية أفريقيا، مع ما حمل ذلك من تجاذبات تهم مصالحه السياسية.
لن تتوقف الرحلات السفارية عند هذه اللحظة. ويمكن في هذا الإطار استحضار نموذجين دالين. ارتبط الأول بتكليف السلطان المغربي محمد بن عبدالله لعالم شاب وهو أبوالجمال محمد الطاهر الفاسي ككاتب بالسفر إلى إنكلترا رفقة الأمينين الحاج عبدالرحمن العاجي ومحمد الشامي، ليخلف بذلك الفاسي نصه الشهير “الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنكليزية”، الذي صدر محققا من طرف الباحث المغربي محمد الفاسي، حيث يقدم أبوالجمال محمد الطاهر الفاسي معطيات مفصلة، سواء عن الباخرة التي أقلته أو عن محطة السكك الحديدية، أو عن استعراض الملكة فكتوريا للجيش بحضور الوفد المغربي، أو عن معامل السلاح، أو عن غيرها من التفاصيل التي تبقى جديدة، سواء بالنسبة لصاحب الرحلة أو مجمل مواطنيه.
تبدو جذور الدبلوماسية الثقافية ضاربة في القدم. ولعل الرحلات السفارية تشكل أهمها، وهي التي كانت تتم في لحظات لم يكن العالم خلالها يوفر شروط العمل الدبلوماسي بمفهومه الحديث
وإذا كانت هذه الرحلة لم تنل ما يكفي من الأضواء بسبب وفاة صاحبها في سن مبكرة، كما يُقر بذلك محققها محمد الفاسي، فستحظى رحلة “تحفة الملك العزيز بمملكة باريز” لصاحبها ابن إدريس العمراوي، بكثير من الاهتمام، مع العلم أن الرحلة انطلقت إلى فرنسا في نفس يوم انطلاق الرحلة السابقة، وذلك بتكليف من نفس السلطان. ولا يبدو ذلك من باب الصدفة، بل يعكس سياقا بدأ يعكس خلال اللحظة تلك احتدامات مصالح القوى الكبرى وبحث المغرب عن إعادة اكتشاف هذا الآخر الجديد، كما يؤكد ذلك الباحث سعيد بنسعيد العلوي.
وبعد قرن عن ذلك، سيقوم محمد الغساني الأندلسي بتكليف من السلطان المغربي مولاي إسماعيل، برحلة إلى وجهة أخرى، وهي إسبانيا، وذلك قصد التفاوض مع ملكها كارلوس الثاني بخصوص استرجاع عدد من الأسرى المغاربة، وأيضا من أجل استعادة رصيد مكتبة السلطان مولاي زيدان التي كانت قد تعرضت للسطو على أيدي قراصنة إسبان، لينتهي بها المطاف في دير الإسكوريال، قرب مدريد. غير أن الغساني سيعود خاوي الوفاض، مخلفا في نفس الوقت نصه الشهير “رحلة الوزير في افتكاك الأسير”.
وتستمد هذه الرحلات السفارية وغيرها أهميتها من خصوصياتها التي تتوزع، بالإضافة إلى أهميتها السردية والأدبية، على مستويين أساسيين. يخص الأول قيمتها المعلوماتية الدبلوماسية، باعتبارها تقدم عبر مشاهداتها المدونة عناصر لإعادة رسم صورة للعلاقات الخارجية خلال المراحل المساوقة لهذه الرحلات. وهو ما تعكسه طبيعة المهام التي تمت في إطارها. بينما يكمن المستوى الثاني في قيمة هذه الرحلات ووظيفتها على مستوى إعادة قراءة تمثل جانبا من الذهنية العربية لصورة الآخر.
وخارج هذه الحالات، يحتفظ الإنتاج في مجال الرحلة السفارية، بشكل عام، بتباين بين المنتجين المفترضين، ويمثلهم مجملُ الذين سافروا في بعثات دبلوماسية، وبين المنتجين الفعليين، وهم الذين دونوا رحلاتهم من بين هؤلاء.
ويعود هذا التباين إلى اعتبارات، من بينها عدم تدوين مجموعة من الرحلات، وضياع عدد من مخطوطات الرحلات التي توجد مؤشرات على كتابتها، ومنها “كتاب العجائب” لمحمد تميم، وهي مدونة، يفترض أنه سجل فيها مشاهداته أثناء رحلته إلى فرنسا عام 1682، وارتباطُ كتابة الرحلات السفارية في غالب الأحيان بأوامر من السلاطين، ولعله الأمر الذي يفسر، حسب عزالمغرب معنينو، دخول نص رحلة “إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار” لإدريس الجعيدي طيّ النسيان طيلة مـدة طويلة.
ذلك أن الجعيدي، الذي تولى كتابة السفير الحاج محمد الزبيدي في سفارته إلى فرنسا وبلجيكا وإيطاليا، كان قد دوّن رحلته دون أن يكلّف بذلك. والأكيد أن الرحلات المغربية والعربية لم تبدأ ولم تنته مع الرحلات السفارية التي تتم عادة بتكليف من السلاطين، بل إن المغامرة بدأت قرونا قبل ذلك واستمرت بعدها.