الكذب وصناعته

صناعة الكذب ليست جديدة ولا ترتبط بالضرورة بالشعبويين الجُدد، غير أن جرعتها تزداد في لحظات معيّنة، كما هو الأمر بالنسبة للحظات الأزمات الكبرى، سواء المجتمعية منها أو الثقافية، أو خلال الحروب.
السبت 2019/02/02
انتصار لخطاب شعبوي جديد

يبدو طريفا أن تترك المجلة الفرنسية الشهيرة “المَغازين لِترير” جانبا قضايا الأدب وهمومه لتخصص أحد آخر ملفاتها لموضوع كذب السياسيين، أما غلاف العدد فيحمل عنوانا بسيطا ومثيرا “الكُذاب”، مع إثبات صور المعنيين بالأمر، والذين كان على رأسهم السياسية اليمينية الفرنسية مارين لوبان وفلاديمير بوتين وبنيامين نتنياهو وغيرهم، بينما يتوسطهم دونالد ترامب.

أما الذي يجمع هؤلاء فهو انتصارهم لخطاب شعبوي جديد، يقوم على الكذب وعلى تحويل الحقائق والأفكار، بشكل يهدّد، حسب المجلة، المعرفة واللغة في آن.

ونظرا إلى تمدّد نادي الكُذاب، لا يبدو من باب الصدفة أن يكون على موعد مع فائض من الدراسات العلمية، التي تحاول فهم الظاهرة، ولعل من آخرها كتاب “عودة الشعبوية” للباحِثين الفرنسيين برتراند بادي ودومينيك فيدال، حيث يقترح الكتاب جولة موسعة على مناطق العالم التي تعرف اجتياحا كبيرا للشعبوية، ومعها صناعة الكذب.

هل يؤذي الكذبُ السياسي الناس
هل يؤذي الكذبُ السياسي الناس

والحقيقة أن صناعة الكذب ليست جديدة ولا ترتبط بالضرورة بالشعبويين الجُدد، غير أن جرعتها تزداد في لحظات معيّنة، كما هو الأمر بالنسبة للحظات الأزمات الكبرى، سواء المجتمعية منها أو الثقافية، أو خلال الحروب.

مَن مِن جيل ستينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، لا يذكر بحسرة أنه أفاق على الهزيمة الكبرى بعد أن تجرّع فائضا من بلاغات النصر، كما يذكر كل العالم بإحباط كيف أن شعوبا ودولا وثقافات وحضارات قد تمّ محوها بكاملها بسبب كذبة ما، كما لم يسلم التاريخ من ذلك، حيث جرت العادة أن يتمّ السكوت عن أشخاص أو عن أحداث ما، أو أن يتمّ تزييف المعطيات والحقائق، ولعل ذلك ما دفع مجلة مغربية مختصّة في التاريخ، وهي مجلة “زمان”، إلى إثبات ركن مثير، في كل أعدادها، خاص بتصحيح المعطيات التاريخية الخاطئة.

ومع ظهور الشبكات الاجتماعية، ستتمدّد مساحة الكذب وأنواعه وطُرق تصريفه، بشكل صارت أغلب الأخبار موضوع شك، بينما وصلت سلطة الكذب إلى كل وسائط المعلومة، سواء تعلّق الأمر بتزييف الصورة أو تزوير الصوت أو هما معا، وذلك، في اللحظة التي تحتفظ الشبكات نفسها بقوّتها، حيث صار بإمكان أيّ مواطن يملك هاتفا أن ينقل، بالصورة وبالصوت، وبشكل مباشر، أيّ حدث يقع في أقصى الكون.

وبذلك، يبدو الكذب ككائن أليف، قد نتعايش معه في كل لحظة، وقد نلبسه في الكثير من الأحيان، لونه الأبيض، من باب تخفيف الإحساس بارتكاب ذنب ما، وإن كان الكذب لا لون له.

في مقابل كل ذلك، يبدو أنّ الأدب هو المجال الوحيد الذي يحظى داخله الكذبُ بشيك على بياض، إذ لا شيء يحدّه، ولذلك، لا يبدو غريبا أن يكون مسموحا للكاتب، تحت ذريعة الخيال أو التخيّل، أن يختلق شخصيات غير موجودة، وأحداثا لم تقع أبدا.

وبذلك، إذا كان الكذبُ السياسي أو الاجتماعي يؤذي الناس، فإنّ الكذب الأدبي ينعش خيالهم، خصوصا إذا كان الكاتب كاذبا جيدا!

15