مغرب ومشرق

المؤرخ محمد المختار السوسي استطاع، بفضل خبرته السابقة في مجال الكتابة التاريخية، أن يمنح للقارئ فرصة اكتشاف تاريخ وثقافة ورجالات منطقة سوس، التي يجهلها المشارقة كما الكثير من المغاربة.
السبت 2018/09/29
المختار السوسي حرص على أن يُجنب القارئ الملل

تبدو الكتب تماما كأي كائن حي. فمنها ما يولد ليفنى، ومنها ما يملك القدرة على تغيير قرائه، وأكثر من ذلك على تغيير الكثير من القناعات. وفي كل اللحظات، ثمة آلاف الكتب التي تمر عابرة كأي كلام عابر. وفي كل اللحظات، ثمة كتاب يستطيع أن يخرج من بين آلاف العناوين المتراكمة، ليمتلك أكثر من حياة.

ولذلك لا يبدو غريبا أن يستمر أثرُ ثلاثة كتب على الأقل على مستوى المكتبة المغربية، بعد أكثر من ثمانية عقود على صدورها، بالرغم من تغير السياقات. أما الفكرة التي التقت حولها الكتب الثلاثة فتكمن في تأكيد الاعتبار للأدب المغربي في ساحة المشرق.

في نهاية العشرينات من القرن الماضي، سيصنفُ محمد بن العباس القباج أول أنطولوجية شعرية مغربية مدفوعا برغبة في تقديم صورة أوضح عن الشعر المغربي. ولعله، كما تكشف بداية تقديمه للكتاب، كان مهووسا بالرد على تجاهل المشارقة لما يُكتب داخل المغرب.

سنوات قليلة بعد ذلك، سيقدم عبدالله كنون على نشر كتاب ستكون له مكانته الاستثنائية داخل مجال البحث في تاريخ الثقافة والأدب المغربي. وهو كتاب “النبوغ المغربي”، الذي حرص فيه على إعادة كتابة تاريخ الإنتاج الأدبي، مع تخصيص الجزء الثاني من المؤلَّف للنصوص الأدبية، سواء المنثور منها أو المنظوم.

وحقق “النبوغ” بذلك منعطفا على مستوى الكتابات المهتمة بتاريخ الأدب المغربي ونقده. كما استطاع أن يقدم صورة دقيقة لمجال التأليف بالمغرب، راسما عبر ذلك الحدود الواسعة والخلاقة للهوية الثقافية لبلد كان حينها تحت الاستعمار الفرنسي. ولذلك كان طبيعيا أن تبادر سلطاته إلى إصدار قرار عسكري يمنع بيع كتاب “النبوغ المغربي” وعرضه وتوزيعه، ويحذر من يخالف قرار الحظر ويتوعد بمعاقبته.

أما ثالث الكتب فتعود حكايته إلى ليلة من ليالي سنة 1941، أنهى فيها محمد المختار السوسي كتابة الشهير ”المعسول”. المختار السوسي يصف هذه اللحظة بانتشاء، شاكرا القدر الذي وضعه في المنفى والذي منحه فرصة كتابة المعسول. في نفس الليلة، تفرغ لكتابة خاتمة العمل، مشيرا إلى أنه كان يفعل ذلك على صوت بكاء ابنه الصغير، وإن كان يجد في بكائه ألحانا ونغمات لا يجدها في ألحان ونغمات أم كلثوم وعبدالوهاب.

واستطاع محمد المختار السوسي، بفضل خبرته السابقة في مجال الكتابة التاريخية، أن يمنح للقارئ فرصة اكتشاف تاريخ وثقافة ورجالات منطقة سوس، التي يجهلها المشارقة كما الكثير من المغاربة، وذلك من خلال الستة آلاف صفحة التي يستغرقها كتاب المعسول. كما حرص المختار السوسي على أن يُجنب القارئ الملل الذي قد يتسرب عبر كتاب من هذا الحجم، مانحا إياه سهولة السفر عبر تشعبات الترتيب الذي اعتمده في التعريف برجالات وعلماء المنطقة. بعد عقود على صدور هذه الأعمال وعلى أسئلتها، لا يبدو أكيدا أن المشرق يعرف المشرق ولا المغرب يعرف المغرب.

15