غياب الحبكة الدرامية في "طايع" أفقده البريق الفني

القاهرة - رأس واحدة تكفي في كتابة فكرة درامية بكل ما تحتويه من خيال وحبكة وشخصيات، الأصل في النص أن يصيغه عقل واحد، مهما تعدّدت الأسماء التي تكتبه، في ما يسمى بورش السيناريو، الجميع لا بد أن يندمجوا فكريا ليخرج العمل وهو يحمل روحا واحدة، وكأن شخصا بمفرده
قدّمه بلا تقلبات غير مقنعة أو مبرّرات في الأحداث.
وقعت الكثير من الأعمال الدرامية مؤخرا في هذا الفخ القاسي، بعد أن أصبح العمل وحبكته وخطه الدرامي مشتّتا في كل حلقة جراء تنوع الكتاب وتبدل الأسلوب في صياغة الحوار الخاص، وكان مسلسل “طايع”، بطولة الفنانين المصريين عمرو يوسف وعمرو عبدالجليل والأردنية صبا مبارك، أحد تلك الأعمال التي سقطت في قالب درامي تأرجح بين أفكار كثيرة صاغها عدة مؤلفين.
بات تعاون أكثر من مؤلف في كتابة عمل درامي واحد، ظاهرة ملحوظة في الموسم الرمضاني المنقضي، وتسبب في سقوط الكثير من المسلسلات في فخ الصياغة المرتبكة، وكان مسلسل “طايع“ أحد تلك الأعمال التي تسببت فيها سطحية السيناريو والحوار في ظهور الأبطال والإخراج هزيلين ومتذبذبين، ورغم النجاح النسبي الذي حقّقه العمل، إلاّ أن الثغرات الكثيرة التي ظهرت فيه قللت من قيمته الفنية.
تشتت النص
تسير الأحداث والشخصيات داخل طريق درامي مليء بالمطبّات، نتيجة تفرّق دمه بين ثلاثة مؤلفين هم محمد دياب وخالد دياب وشيرين دياب، الذين كتبوه حسب رؤية وتوجهات كل منهم، ربما يكون هذا الثلاثي قدّم أعمالا ناجحة من قبل، غير أن “طايع” جاء أقل في المستوى وكأنه يتناول شريحة في المجتمع الصعيدي بعيدة عن الواقع، واستغرق في تفاصيل بدت غير منطقية لمن يعرفون حقيقة هذا المجتمع.
وتجلى التشتت في النص في مسيرة بطل العمل “طايع”، وهو طبيب يرفض نهائيا فكرة الثأر لدرجة أنه يدخل السجن متعمدا للهروب بدلا من أن يقتل أحدا، وحفاظا على حياة شقيقه الأصغر “فواز” الدور الذي قام به الفنان الشاب أحمد داش، في المقابل يقبل التعاون مع عصابة لسرقة الآثار ليجد من يحميه هو وأسرته ممن يريدون الثأر منه، ثم يتحوّل إلى مجرم بذريعة أن الظروف أجبرته على ذلك.
ويقدم المسلسل ثيمة درامية قديمة، إلاّ أنها ثرية لو تمت معالجتها بصورة تتفق مع الواقع المختلف للصعيد الآن، وكان من الممكن أن تستغل لنقل صورة درامية لمجتمع طرأت عليه الكثير من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية.
تلك التغيرات يجب أن تكون ملهمة لأي كاتب، لكن يبدو أن ثلاثي “آل دياب” لم يتمكن من العثور على أفكار من كنوز هذا المجتمع تنقل تفاصيله وروحه وشخصيات أهله.
واكتفى الكُتاب الثلاثة فقط بعمل نسخة جديدة من نفس الأشكال والمعالجات الدرامية المحفوظة عن الثأر مشابهة لتلك التي كانت تقدّم في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
ولم يقدّم أبطال المسلسل صورة مؤثرة للواقع الصعيدي، باستثناء الفنان عمرو عبدالجليل، لص الآثار الذي لم يكن له هدف إلاّ الثأر من قاتل ابنته، وقدّم شخصية ثرية بالمشاعر والتناقضات الإنسانية.
وتناولت القصة قضية سرقة الآثار في الصعيد، لكنها قدّمت بطريقة ساذجة، أساءت لأهل الصعيد من حيث صور سرقة الآثار والتعاون مع السارقين، وبدا الأمر عاديا يمارسه الجميع بلا قلق أو إحساس بالقيمة والمسؤولية.
نقاط مضيئة
ظهر في الأحداث وجود بعثات أجنبية كاملة للتنقيب عن الآثار في مصر تعمل لحساب أفراد لمساعدتهم في نهب الآثار دون مراقبة وبشكل يفتقد للمنطق، لكن يُحسب للمؤلفين التعرّض بشفافية لطرق تهريب الآثار خارج مصر، والتأكيد أن الشرطة دون تعاون الأهالي معها لن تنجح جهودها في الحفاظ على الآثار، ممّا يرسّخ فكرة أن هذه الثروات في حماية المصريين جميعا وليس الأجهزة الأمنية فقط.
وهذه المحاولات لرصد ومناقشة القضية الهامة دراميا، فقدت الكثير من تأثيرها نتيجة المباشرة في تقديم الفكرة والخطب الأقرب للنصائح التي كانت تلقيها بعض شخصيات العمل مثل طايع، رغم أنه ابن أحد لصوص الآثار، والضابط “سراج”” ومفتشة الآثار “أمينة” التي بدت أمينة على ثروات الوطن ورافضة لبيع تاريخه ممّا أضفى الكثير من السطحية على المعالجة.
السيناريو قدم قصصا قديمة ومكررة، وغياب الرؤية العميقة للمجتمع في صعيد مصر جعل العمل بعيدا عن الواقع
ويبقى من النقاط المضيئة دراميا في العمل التطرّق إلى مشاكل بعض الأفارقة الموجودين في مصر هربا من الحروب في بلادهم، وأهمها شعورهم بنظرة بعض المصريين الدونية لهم والسخرية من لون بشرتهم، وهي قضية لم تقدّم كثيرا في الدراما المصرية.
وبشكل عام الاعتماد على أفكار مثل التمسك بالثأر ونهب الآثار وقصص الحب القاسية بين شاب وفتاة، كلها أفكار قدّمت دراميا وأنهكت من التكرار، وكثرة القتلى ومشاهد الدم، التي تحوّلت إلى مادة جاذبة لسخرية الجمهور، ولم تستطع منح العمل الصورة الملحمية لبطل غير عادي، تلك الصورة لا تتفق مع طبيعة العمل كمسلسل درامي عادي.
ولأن الورق هو العمود الفقري للعمل، إذا أصابه كل هذا التفسّخ والوهن والعجز عن اكتشاف مناطق دراما جديدة، لن يستطيع المخرج مهما كان موهوبا أن يصلح ما أفسده السيناريو، وهي ضريبة دفعها المخرج عمرو سلامة، ورغم تميزه وامتلاكه أدوات إخراجية متقنة، لكنه بدا في أول تجاربه مع الدراما التلفزيونية فاقدا للسيطرة على بعض المفاتيح.
في مقدّمة هذه المفاتيح السيناريو الذي كان قبوله بهذه الصورة خطأ جسيما، مع ضرورة الاهتمام أكثر بالتصوير الخارجي لا سيما مع روعة المشاهد الطبيعية في الصعيد، لكن كآبة الأحداث غطّت على صور مشرقة لم تستغل دراميا، وكان من الواضح وجود مشاكل في مونتاج بعض المشاهد، وهي مشكلة تقع مسؤوليتها على المخرج. وإذا كان المخرج وقع أسيرا للورق الهزيل، فمن غير المنطقي أن يخرج أبطاله بأداء متذبذب من مشهد لآخر، وقدّم عمرو يوسف تقمصا جيدا لشخصية “طايع” المشتّت بين القيم الأخلاقية والثأر في بعض المشاهد، لا سيما في اللحظات التي يتذكر فيها أنه طبيب، لكن في أحيان أخرى ظهر كممثل مجتهد، يحتاج للمزيد من التجارب الفنية لثقل موهبته كبطل يحمل على أكتافه مسؤولية عمل بمفرده.
وكان يمكن لمسلسل “طايع” أن يفقد المزيد من الجمهور، لولا الأداء القوي الذي قدّمه عمرو عبدالجليل الشخصية الأكثر انضباطا وقوة في البناء الدرامي في دور “الريس حربي”، وهو شخص يمتلك منطقا وأسبابا لكل تصرف يقوم به، وتألق المؤلفون في رسم صورة علاقته الاستثنائية بابنته “سماح”.
ونجح عبدالجليل وقدّم في “طايع” حالة نادرة من الاندماج الكامل في الشخصية التي جسّدها بواقعية، وكان في الموسم الدرامي الرمضاني المنقضي حالة تبشر ببزوغ نجم أول جديد على الشاشة الصغيرة.
ووقعت الفنانة صبا مبارك التي قامت بدور “مهجة” في فخ الارتباك في الأداء وجاء حضورها في الكثير من المشاهد رتيبا، أما سهير المرشدي “أم طايع” فهي تشبه لاعب الكرة الذي ابتعد عن الملاعب فترة طويلة ثم عاد وفقد كامل لياقته، فبدت باهتة فنيا.