"البيت الكبير" دراما مصرية عن صراعات عشوائية بلا منطق

تبنى تراكيب القصص الدرامية على وجود عقدة أو عدة صراعات تجذب المشاهد وتزيد من زخم التشويق والمتابعة، ولكن خلقها دون منطق وتسلسل متعمق وقضية ثابتة يصنع عملا مشوها، وهو الخطأ الذي وقع فيه المسلسل المصري “البيت الكبير”، ويفضي العمل، الذي يعرض الجزء الثاني منه حاليا على القنوات الفضائية، إلى الكثير من العنف والكراهية والشر حتى أضحى أمام معضلة احترام عقل المشاهد وضرورة إقناعه بفطرة الشر المطلق.
القاهرة – من المؤكد عند متابعة المسلسل المصري “البيت الكبير” بجزأيه أن يقلق المشاهد من التأثير الأخلاقي للدراما على المجتمع، وكيف يمكن أن تحقن بعض المسلسلات الجمهور بالقيم السلبية عبر عمل درامي يظن صناعه أنهم يقومون بحرب ضروس ضد هذه القيم.
ففي المسلسل المصري “البيت الكبير” حاول المؤلف أحمد صبحي والمخرج محمد النقلي إضفاء صراع قوي في لب وتكوين القصة الدرامية، ولكنهما خلقا صراعات عشوائية فقدت بريقها من كثرة تكرارها، وفقد القائمون بالعمل كامل إنسانيتهم نتيجة لعدم المنطق والعقلانية في تصرفاتهم، وذلك فخ وسقطة لا يغفرهما الجمهور والنقاد.
وتحوّل الممثلون في المسلسل إلى كائنات تمارس الشر والكراهية والجرائم ضد بعضها البعض وكأن الأمر اعتيادي فطري، في هدوء وثبات أعصاب، ليخرج العمل من نمطه الدرامي، ويتحول إلى إحدى ألعاب العنف الإلكترونية التي يتقاتل فيها الجميع لمجرد الاستمتاع بالقتل.
جرائم أسرية
في الجزء الأول لـ”البيت الكبير”، الذي عرض في ستين حلقة، تابع المشاهد علاقات أسرية مريضة ومعقدة ومرتبكة بين شقيقين وزوجتيهما؛ “عبدالحكيم” الذي يقوم بدوره أحمد بدير وزوجته “كريمة” وتؤدي دورها لوسي، و”عبدالله” الذي يقوم بدوره الفنان أحمد صيام، وزوجته “جبرية” وتقوم بدورها سوسن بدر، وتشهد تلك التركيبة كل أنواع الجرائم الأسرية من استيلاء على الحقوق والمواريث والقتل بين الأشقاء وأبناء العمومة.
ينطلق موسم القتل والدماء والرغبات المحمومة بالثأر والانتقام مع مقتل الأخ الأكبر عبدالله، ليظهر عبدالحكيم ساعيا في جمع أشلاء عائلته وعائلة شقيقه الذي قتلته زوجته جبرية، قبل أن تكسب عائلة شقيقه المتوفى القضية التي رفعتها عليه لتسترد حقوقها.
تقبل كريمة، الطامعة في الاستيلاء على البيت الكبير بكل ثرواته، بزواج ابنتها الكبرى زينب مي فخري، بـ”مروان” منذر رياحنة ابن عبدالله، وكذلك زواج ابنتها “ريتال” دينا المصري من ابنه الثاني “حسن” طارق صبري، لينتهي الجزء الأول بزواج عبدالحكيم نفسه بجبرية ليضمن عدم تقسيم الميراث بين الأسرتين.
ولم تحمل نهاية الجزء الأول دلالة أو حاجة إلى وجود جزء ثاني، ولم يخفي أحد من صناعه أن نجاح جزئه الأول الذي فاق التوقعات، هو ما شجعهم على التفكير في تقديم جزء ثان تم تخليق أحداثه بشكل مفاجئ، بكل ما في ذلك من مغامرة ومخاطرة جماهيرية، لاسيما أنه لم يأت في مستوى الجزء الأول.
وقع صناع العمل في جزئه الثاني في الكثير من المحاذير التي كان لا بد من تجنبها حفاظا على نجاحهم السابق، وأولها الاستمرار في بث رسائل الكراهية ومشاهد الجرائم بصورة صارت مضحكة، حيث تقتل كريمة الزوجة الأولى لمروان، حتى لا ترث مع ابنتها زينب.
وهناك شخصيات حدثت لها نقلات من النقيض إلى النقيض، وكأننا نشاهد شخصيات مختلفة، خاصة مروان الذي أدى دوره في الجزء الثاني مجدي كامل، إذ كان في الجزء الأول ودودا بارا بأسرته وأقاربه، لكننا نجده يتحول إلى رجل يعمل في التجارة المحرمة مع عصابات دولية بالتعاون مع رجل الأعمال هادي الجيار وزوجته داليا مصطفى. تلك العصابة التي ستكون جزءا محوريا من أحداث الجزء الثاني، بالإضافة إلى علاقة تظهر فجأة بين رجل الأعمال المشبوه وسيدة تعمل في الموالد “تغريد فهمي”.
وجميعها خيوط درامية جديدة وثرية دراميا كان يمكن استغلالها في عمل درامي مستقل، لاسيما بعد قبول المؤلف والمخرج لفكرة استبعاد بطلي الجزء الأول أحمد بدير ومنذر رياحنة؛ وهما عمودا شعبية وجماهيرية العمل.
يبدأ الجزء الثاني بتقاتل وعداوة متأججة بين جبرية وكريمة، والتي انتقلت كذلك إلى الأبناء والزوجات، فريتال تدخل في حروب مع درتها “مفيدة” وتقوم بالدور الفنانة تيسير عبدالعزيز ثم مع شقيقتها زينب، بالإضافة إلى صراع آخر مع “زينة” شقيقة زوجها.
وتنطلق حلقات المسلسل في أحداث ملتهبة ومشتعلة، ورغم التشويق بالحلقات، ظل تصاعدها بغرض الإثارة، فقط، دون منطق، وكأن الجميع مولود بفطرة الشر والكراهية، ليتحولوا جميعا إلى مشاريع قتلة من أجل المال دون أن يتوقفوا للحظات حتى يبرروا للمشاهدين هذا العبث الدرامي، وهنا كان يجب على المؤلف أن يمنح لأبطاله الحق في إدارة أحاديث مع أنفسهم وجمهورهم ليبرروا سلوكهم الشرس.
عبث درامي
فقد المؤلف أحمد صبحي بوصلته الدرامية، فاختلط عليه الأمر ما بين التحذير والتنفير من القيم الأسرية السلبية والترويج غير المتعمد لها، وهنا تكمن الخطورة الدرامية للمسلسل في ظل حالة احتقان مجتمعي حقيقي يعيشها المصريون لأسباب متعددة، مما قد يحوّل تأثيره إلى ما يشبه صفحات الحوادث في الصحف، والتي ترسخ لوجود جرائم بعينها باعتبارها جزءا من سلوك المجتمع فيعتادها القارئ ويتصوّر أنها سلوك عادي.
“البيت الكبير” في جزئيه، تعامل مع الجرائم الأسرية ببلادة واضحة، وتحوّل القتل إلى حادث اعتيادي، وهذا أمر يحسب على المؤلف، وأتت معظم الأحداث قاتمة وموحشة، ولم ينجح القائمون على العمل في استغلال اختيار الصعيد كمكان تجرى فيه الأحداث، وبكل سحر الجنوب الدرامي الذي استمتعنا به مع روائع درامية سابقة مثل “ذئاب الجبل” و”الضوء الشارد” و”حدائق الشيطان”، تحوّل في هذا المسلسل إلى عبء على الممثلين.
قدم المؤلف أحمد صبحي ثيمة صراع السلايف (زوجات الأشقاء)، وهي ثيمة لها جاذبيتها وتفاصيلها الكثيرة، إلاّ أنه لم يجد الاستفادة منها، والمشاهد كثيرا ما جاءت طويلة وحواراتها مسترسلة أكثر من اللازم، وكذلك اللهجة كانت تنويعة بين العامية المصرية والصعيدية البسيطة مما أجج سؤالا ملحا: لماذا اختار المؤلف الصعيد تحديدا كموقع لأحداث قصته؟
وساهم أيضا المخرج محمد النقلي في إضفاء أجواء تقليدية على العمل لم توحي بتميز صعيدي في الصورة أو المشاهد الخارجية أو الديكورات أو الإكسسوارات التي أتت جميعها تقليدية ورتيبة، بل لا يمكن الشعور بوجودها من عدمه، وإن لعبت الإضاءة في بعض المشاهد دورا حيويا لتعميق معان درامية أراد المخرج التركيز عليها.
أما الممثل منذر رياحنة الذي ذاب في عالم الدراما في مصر تماما، وصار جزءا أصيلا منه، فقد جسد دور الشاب الصعيدي بكل طبيعة وحرفية، وكذلك كان أداء أحمد صيام تلقائيا وسلسا في انسيابية معتادة منه.
ورغم الرصيد الدرامي الكبير للمخرج محمد النقلي، لكن يبدو أنه في هذا العمل لم يوجه معظم ممثليه، بل تركهم لخبراتهم الذاتية مما أوقع نجمة بحجم سوسن بدر في فخ تكرار نفس تعبيراتها التي قدمتها في السابق في دور الصعيدية بمسلسل “الرحايا” أمام الراحل نور الشريف. ويبقى في النهاية قبول مجدي كامل دور منذر رياحنة، الذي اختلف مع المنتج حول أجره في الجزء الثاني، فخا كان يجب الهروب منه، خاصة وهو بكل خبرته متيقن أن مقارنة أي ممثل مهما علت إمكانياته تكون لصالح البطل الأول للعمل.