"122" فيلم يعمق جراح المصريين بعد أن استباحهم الفقر

الشريط "122" لمسات إنسانية واجتماعية داخل غلاف الإثارة، وسلسلة متصلة من الجرائم على امتداد ليلة واحدة.
الخميس 2019/01/31
التشويق بطل الفيلم من بدايته إلى نهايته

ليس مخيفا في أفلام الإثارة والمطاردات تضمنها مشاهد مرعبة أو دموية، بل المخيف أن يكون الفيلم قد صنع من أجل إثارة حماس الجمهور بهذه الوسائل لمشاهدته دون مضمون فني وإنساني يثري العمل ويُحمله قيمة مفترضة في أي شريط سينمائي، وهو الفخ الذي لم يقع فيه صناع الفيلم المصري “122” الذي يعد من أفضل الأفلام الجديدة التي قدمت لمسات إنسانية واجتماعية داخل غلاف إثارة تلهث وأنت تتابعه، ما يجعل كل غاية المُشاهد في دار العرض أن يعرف إلى ما ستنتهي إليه هذه الأحداث اللاهثة؟

القاهرة – المثير في الفيلم المصري “122” الذي يعرض في القاعات الآن، أن كل من يتابعه يشعر أنه شاهد فيلما يشبهه من قبل، إلى أن يظهر مشهد النهاية وتعود الذاكرة تلقائيا إلى رائعة رفيق الصبان وبشير الديك وعاطف الطيب في “ليلة ساخنة”، ويبدو أن صناع “122” اقتبسوا فكرته وثيمته الاجتماعية والأخلاقية وأحداثه التي تدور في ليلة واحدة، وإن تمكنوا من خلق قضايا مختلفة، وأحداث شديدة الواقعية لكنها ترسخ فكرة أن العمل ما هو إلاّ نسخة 2019 من “ليلة ساخنة” الذي صدر في العام 1995.

مستشفى الموت

في “122” نجد أنفسنا أمام ثنائي مكون من أمنية (أمينة خليل) التي تعاني من مشاكل في السمع والنطق وتعمل في كوافير بمنطقة شعبية، ونصر (أحمد داوود) الذي يعمل كبائع في محل أحذية، تجمعهما قصة حب جارفة تجعلهما يعقدان قرانهما سرا وتحمل البطلة ويصبح كل همهما توفير مصاريف الزواج قبل افتضاح أمرهما.

ويتفقان على شراء مخدرات بالأموال التي ادخراها لتجهيز بيتهما من مكسب الصفقة، فتقع لهما حادثة على الطريق لتنتقل أحداث الفيلم داخل المستشفى الذي نكتشف مع تسارع مجريات الفيلم أنه مجرد وكر لتجارة الأعضاء البشرية بقيادة الدكتور نبيل (طارق لطفي) الذي يطلب من الدكتور أمجد (أحمد الفيشاوي) أن يحصل على قرنيتي عين نصر وكبده، في الوقت الذي يخبر زوجته بأنه لم يدخل معها المستشفى بعد الحادث.

تتلاحق الأحداث بعد أن يرفض أمجد إجراء الجراحة فيقتله نبيل الذي يقتل كذلك الدكتور محمد (محمود حجازي) بعد أن بدأ يشك في أمره، ويقتل ممرضة كشفت حقيقته، سلسلة متصلة من الجرائم التي لم توقفه عن مطاردة نصر وأمنية. وعندما يقرر الدكتور نبيل الهروب بـ”تحويشة” (مبلغ مالي كبير) عمره بعد تأكده من خروج الأمور عن سيطرته يجبره الممرض (محمد ممدوح) على إجراء جراحة لسرقة كلية أمنية بعد أن تمكنوا من الإمساك بها، لكن خطيبها ينقذها في اللحظات الحرجة، بعد أن يقتل الممرض والطبيب، ويهربا بحقيبة أموال الدكتور نبيل، لينتهي العمل بنظرات سعادة من بطليه وكأنهما عثرا على كنز حياتهما.

مستشفى الموت
مستشفى الموت

قدم صلاح الجهيني مؤلف العمل العام الماضي واحدا من أنجح أفلام السينما المصرية “الخلية”، ويبدأ هذا العام بـ"122" الذي يعج بالأحداث التي لن تتمكن مع تسارع وتصاعد وتيرتها من إبعاد عينيك وذهنك عن الشاشة التي لم تكن مصدرا فقط للضرب والقتل، بل حفلت باللمسات الإنسانية والاجتماعية.

ومنها قصة حب البطلين البسيطة في شكلها والعميقة في مضمونها، ما جعل البطل على امتداد الفيلم السينمائي كل ما يشغله التستر على زوجته من فضيحة قد تطيح بسمعتها، والبطلة التي تجد حياتها مع الشاب الذي قبل بها رغم ما يقال عنها من أنها “معيوبة”، وفقا لتعبيرها الخاص.

ويثير “122” في سرده التفاصيل البسيطة لواقع الشابين الشجن بعرضه لقطات مؤثرة من حياة البسطاء وما يتحملونه من عناء لمجرد الحياة، أما داخل المستشفى فالفيلم يعمق جراح المصريين، خاصة الفقراء ومن لا سند اجتماعي أو أسري لهم، ويصورهم كبني آدميين مستباح انتهاك حيواتهم وأجسادهم.

قضية خطيرة

بيع الأعضاء قضية خطيرة تعاني منها مصر في صمت، وامتلك صناع الفيلم التصدي لها بشجاعة تحسب للكاتب الذي لم يتوان عن تقديم صورة الطبيب مدمن الهيروين، نبيل، الذي يحوله الإدمان إلى مسخ بشري تلفظه زوجته إلى درجة أنها ترفض مجرد لقائه بابنه الوحيد، وطبيب آخر استغل نبيل ضعفه ورغبته في تأسيس بيت الزوجية، وهو أمجد ليحوله إلى سفاح ينهش جسد الأموات والأحياء.

ومن أروع مشاهد الفيلم لقطة أمنية ونصر يناديها في المستشفى، وهي تبحث عن سماعتها المعطوبة ولا تجد ثمن إصلاحها فتصاب بحالة ضعف وغضب يسيطران على قلب من يشاهدها بهذا العجز وقلة الحيلة. كذلك لقطة نصر وهو يقبل يد الطبيب أمجد، ويقول له “مراتي (زوجتي) حامل خرجني (أخرجني) ومش هقول (ولن أقول) حاجة (شيئا)”، تؤكد أن صورة البطل مرسومة بعناية لرجل حقيقي يدافع عن وجوده من أجل حماية زوجته، وفي مشهد معبر عن تنامي الإهمال في الكثير من القطاعات نجد البطلة تصرخ مستنجدة بعربة الشرطة، لكن الجندي الموجود فيها كان يشاهد إحدى المباريات.

المؤلف صلاح الجهيني استنسخ الفكرة والثيمة من فيلم 'ليلة ساخنة'، لكنه امتلك أدوات التعبير عن الواقع الحالي
 

وتصنيف “122” كفيلم رعب ومطاردات فقط يعد إجحافا في حقه، فالبعد الإنساني داخله ممتد ومؤثر، وامتلك الكاتب القدرة على تجسيد شخصياته بعيدا عن النمطية المعهودة بواقعية نشتم فيها رائحة ما نعيشه في كل مشهد، كما امتلك مهارة الحفاظ على وتيرة تلاحق الأحداث مع تصاعدها دون إخفاق.

وسخّر المخرج ياسر الياسري الأدوات التقنية والفنية التي توفرت له لتحويل نص مليء بالمطاردات داخل أربعة جدران للمستشفى إلى حقيقة مرئية مقنعة استخدم فيها الصوت والإضاءة بصورة محترفة، وقد يكون عمله لسنوات في مجال إخراج وإنتاج المسلسلات والأفلام الروائية القصيرة والتي شارك بها في أكثر من ثلاثين مهرجانا دوليا من العوامل التي ساهمت في بلورته كمخرج يملك لغة سينمائية خاصة، تمزج مفرداتها بين تكنيك السينما التجارية والمستقلة.

لا عزاء للفقراء
لا عزاء للفقراء

ورغم قلة أماكن التصوير الخارجي، إلاّ أنها ساهمت في إضفاء أجواء من التشويق الذي كان سيد الموقف في عمل سينمائي لم يزد عدد المشاركين بالتمثيل فيه عن عشرين شخصا من أبطال وأدوار ثانوية وهامشية.

والرواج الجماهيري يعود الفضل في جزء منه أيضا إلى فريق العمل الذي يحسب للمخرج الدقة في اختياره وعلى رأس هذا الفريق طارق لطفي، هذا “المشخصاتي” المتمكن الذي اكتشفه عاطف الطيب وقدمه في فيلم “دماء على الإسفلت” عام 1992، ولظروف إنتاجية تم حصره في الأدوار الثانية إلى أن قدم مسلسلي “بعد البداية” و”بين عالمين” وكان نجاحه فيهما كبطل أول مفتاح دخوله للسينما.

يرسخ فيلم “122” لحقيقة أننا أمام جيل سينمائي مصري مهموم بالتلاحم مع قضايا مجتمعه ويجيد التعبير عنها بلغة سينمائية بها كل عناصر التشويق، وهذا يبشر بحل معضلة الأفلام الواقعية الجادة وكيف يمكن أن تكون جماهيرية في الوقت نفسه.

16