أفول المعرفة

لا يمكننا أبدا أن نختلف حول تأكيد كوننا نعيش لحظة استثنائية بامتياز وكوننا محظوظين لأنه يكفينا الضغط على أزار هواتفنا لكي نحصل على أي معلومة وأي وثيقة في الحين، ولكي نصل إلى أي قاعدة معطيات ببيليوغرافية أو نصية، ولكي ننط، بيسر، من النص المكتوب إلى الصورة، ثم إلى الصوت، حيث لا حدود بين الوسائط.
إنها هدية رائعة. ولكنها هدية قد تكون مسمومة. أما الهدية فلا تُرفض، كما هو حال الهدايا. وأما السم فيكمن في الآثار الجانبية التي قد لا ننتبه إليها في خضم فيضان المعلومات الذي يجتاحنا في كل ثانية. وبذلك، بقدر ما تساهم تكنولوجيا المعلومات الجديدة في إشاعة المعرفة وفي دمقرطة الوصول إليها، بقدر ما يمكن أن تبطئ تطورها.
لنتأمل حالة الباحث الذي يجد كل المعطيات أمامه، والذي يضع جانبا ذكاءه وحدسه وقدرته على الاكتشاف والابتكار، مدفوعا في ذلك بإغراء الأفكار الجاهزة، التي لا تحتاج إلا لبعض التغليف والتحوير والتركيب لتخرج في صيغة مغايرة، بقليل من الجهد، والتي بدل أن تُقدم الجديد، لا تنفع إلا في ترقية صاحبها.
لنتأمل عد الاستشهادات التي تُثقل كثيرا من الدراسات العلمية والثقافية. وإذا كان ذلك مطلوبا، احتراما لجهود الغير وإذا كان عدد الاستشهادات يمثل مؤشرا على أثر دراسة ما، غير أن الأمر يحمل أيضا صورة عن بعض الكسل المعرفي الذي يجتاح كثيرا من الأعمال الفكرية والذي يجعل من بعضها أشبهَ بمنتوج لصناعة النسيج، غير الوطنية بالضرورة.
لنتأمل أيضا عددا من الأعمال الفكرية التي تخلو من الإشارة إلى أعمال الغير أو تسكت عنها، كما لو أنها تؤسس للمعرفة من جديد. والحال أنها تكرس نزعة الصمت عن جهود الآخرين، متناسيةً أن سرقة فكرة صغيرة هي جريمة لا تقل عن سرقة أموال عباد الله، أو متماهيةً مع الرغبة في قتل آباء وهميين، في الوقت الذي تعجز عن إحياء فكرة صغيرة قد تضئ قرية صغيرة، اسمها العالم.
والنتيجةُ أنه، بشكل مفارق للتراكم المذهل والمتواصل للإنتاج الفكري والثقافي، الذي يغرق العالم عبر ملايين العناوين الصادرة عبر عواصم العالم الثقافية أو غيرها، يبدو أن وتيرة تطور المعرفة قد لا تساير هذا الإيقاع السريع. ذلك لأن للأفكار إيقاعها الخاص الذي تفرضه طريقةُ ولادتها العسيرة وطبيعةُ حياتها الخاصة -المتماهية مع مثيلاتها. ولنا أن نتصور، انسجاما مع ذلك، كيف يمكن أن يزيد الباحثون المتكاسلون من بطئ معرفة هي في الأصل بطيئة.
والحقيقة أن المعرفة، بخلاف المعلومة، تحتاج نارها الهادئة. ولذلك، لا يبدو غريبا أن يستطيع العلماء، الذي اعتدنا تصنيفهم ضمن خانة المحافظين، نسجَ تواصل مدهش بين مؤلفاتهم. لنقرأ حواشيهم وطررهم وتعاليقهم وفهارسهم وأسانيدهم، حيث تنمو شجرة المعرفة في لحظات لم يكن هناك لا غوغل ولا ياهودَتكوم.