يوميات ورحلات الكتّاب العرب الفائزة بجائزة ابن بطوطة

المخطوطات الفائزة تمثل نماذج متميزة من أدب اليوميات والرحلة الذي يدوّنه كتّاب عرب معاصرون، أغلبهم روائيون وشعراء.
الأربعاء 2020/12/30
تفاصيل ساحرة وثقافات تغري بالكتابة عنها (لوحة: مجدي نجيب)

تكشف المخطوطات الفائزة بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، التي يمنحها المركز العربي للأدب الجغرافي- ارتياد الآفاق في أبوظبي ولندن كل عام، عن نماذج متميزة من أدب اليوميات والرحلة الذي يدوّنه كتّاب عرب معاصرون، أغلبهم روائيون وشعراء. فمنذ تأسيس الجائزة عام 2000، والتي يرعاها الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، ويشرف عليها مدير عام المركز الشاعر السوري نوري الجراح، استقبلت المكتبة العربية أكثر من 40 كتابا في سياق الرحلة المعاصرة واليوميات لكتّاب من المشرق العربي ومغربه، أو ممن يقيمون في أوروبا والأميركتين وقارات العالم الأخرى.

في الدورة الأخيرة (التاسعة عشرة) للعام 2020، التي أعلنت نتائجها قبل أيام، وحملت اسم الباحث السوري الراحل قاسم وهب، منحت لجنة التحكيم جائزة الرحلة المعاصرة للروائية المصرية منصورة عزالدين عن كتابها “خطوات في شنغهاي: في معنى المسافة عبر مدن صينية”، وجائزة اليوميات للشاعر اللبناني شربل داغر عن كتابه “الخروج من العائلة”.

تفتتح منصورة عزالدين رحلتها من مصر إلى شنغهاي بقولها “أعرف أن هناك مدنا تقهر المخيلة، تستنزفها وتحوِّلها إلى خرقة، ومدنا أخرى تثريها وتشحذها إلى درجة تحيلها إلى سيف مسنون”.

التعبير عن هموم الذات الكاتبة
التعبير عن هموم الذات الكاتبة

تنزع منصورة عزالدين إلى التعبير عن هموم الذات الكاتبة، فهي تدوّن أخبار جولاتها الصينية ووقائعها خلال رحلة إقامة أدبية. إنها رحلة ثقافية، تتردد بين سطورها أسماء كاتبات وكتّاب صينيين ومن العالم. ويشعر القارئ أنه يسافر مع الكاتبة وهمومها، أكثر مما يسافر ليتعرف على المدن والقرى والبلدات، أو على الوجوه والملابس وألوان الطعام، أو على المواصلات والمباني والمتنزهات، أو على العادات والتقاليد والأخلاق، أو الميول التي تطبع الصينيين من أهل الجهات التي حلت الكاتبة بين ظهرانيهم.

كما يتعرف القارئ على انفعال بالمكان لربما كان سببا في مطلع فصل روائي ستكتبه الكاتبة، أو نقف على منظر من شرفة في فندق يذكّر الكاتبة بفندق في بلد آخر سبق أن حلت فيه، وكان ما رأته هناك في ساعة من الزمن، وترك فيها انطباعا مؤثرا سببا في مفتتح رواية سبق للكاتبة أن دونته، وها هي الآن في أعماق آسيا تستعيد ذكرى ذلك المكان الأوروبي بحنين الكاتبة إلى كتابتها.

 وبينما هي تحل في شنغهاي تتساءل الكاتبة “فيمَ كنت آمل وأنا ألقي بمرساتي في مياه شنغهاي؟! ربما كنت أبحث عن سكينة مفقودة، فرصة لاكتساب خبرات جديدة والاقتراب من ثقافة لطالما أحببتها من بعيد، عبر القراءة عنها دون معايشتها فعلا”. لكن الكاتبة لا تني تعترف بطبيعة احتياجها من السفر بعيدا “تمنيتُ طبعا أن تتاح لي إمكانية الكتابة بذهن صافٍ بعيدا عن متطلبات الحياة اليومية والعائلة والعمل الصحافي في مدينتي الأم، غير أنني كنت سأرضى، من هذه المدينة الثرية، بفتات الكتابة، شرط أن تسمح لي باقتراب فعلي منها”.

وقد تميزت هذه اليوميات بأسلوب سلسل، تسجيلي، ومقتصد وبعيد كل البعد عن التزويق البلاغي، فمنصورة عزالدين تكتب باقتضاب، ومن دونما استغراق أدبي أو بلاغي. ويطوف القارئ معها في الصين.

تتسم يوميات شربل داغر بطرافة نادرة، وقدرة على الاعتراف في كتابة السير ذاتية، فغالبا ما يكتب الكتّاب يوميات وسيرا ذاتية ليجملوا صورهم، ويدهشونا بفرادة ذواتهم، حتى أن انتقائيتهم التي يمليها عليهم الاغتراب عن ذواتهم لا تبقي لنا منهم سوى صور منقحة، تبدو معها ذواتهم أقرب إلى الأيقونات منها إلى صور ينتمي أصحابها إلى دنيا البشر الفانين.

يوميات شربل داغر تتصف بطرافة نادرة
يوميات شربل داغر تتصف بطرافة نادرة

بخلاف ذلك تبدو هذه اليوميات عن شخص شربل داغر وأشيائه المبكرة والمتأخرة، عن منبته ومشاربه ورحلته الشعرية والأدبية الممتدة على مدار أربعة عقود ونيف صفحات رائقة وطريفة وذكية معا لسيرة شخصية ثرية كتبت بلغة مكثفة وسلسلة، ونقلت لنا ببراعة صورا واقعية، صادقة، حارة، ليس فيها من التأليف بمقدار ما فيها من التذكر والاستعادة لما لا شبهة في حقيقيته. والأكثر من ذلك فإن المرء، بينما هو يسافر مع سطور هذه السيرة، يصيبه شعور بأن صاحبها يكتب عن نفسه كمن يكتب عن شخص آخر، فلا يوفر نفسه من تلك الإشارات الناقدة، ولا من الملاحظات الفكهة، التي لا تبقي لك شكا في “آدمية” الكاتب و”بشريته”.

“الخروج من العائلة” كتابة عابرة للزمان والمكان معا، فهي تستعيد ببراعة لا يشوبها التكلف ولا يعوزها التلفيق، تروي وقائع وتقدم صورا قلمية لأزمنة النشأة، وجذور العائلة وفضائها القروي، فالانتماء المديني إلى الشاب في ظلال الحرب الأهلية، وثقافته العلمانية العابرة للصراع الطائفي، والنافرة منه لمعانقة الاختلاف الديني والمناطقي والهوياتي، في فضاء الصداقة والصديق، ورفاق الرحلة التي نذر الشاعر نفسه لها لا من أجل مواجهة القديم بالجديد، والانتقال بلبنان من مجتمع الطوائف إلى المجتمع الحديث، بل ومن أجل تغيير العالم، كل العالم ليصبح مسكنا للإنسان أكثر رحابة وجمالا.

ويلاحظ القارئ من خلال سطور هذه اليوميات، كيف أن النزعة الإنسانية لدى صاحبها قد تبلورت عبر السفر والإقامة في فرنسا، جراء الانفتاح على هويات شتى لاسيما المغاربية، وكذلك من خلال رحلة العمل في الصحافة اللبنانية المهاجرة والدراسة الأكاديمية، ومغامرة الشاعر في العالم. وهو ما جعل رؤية الشاعر لذاته مرتبطة، على نحو لا فكاك منه بالآخر، وهو ما انعكس في كتاباته واهتماماته، التي تكشف هذه اليوميات عن بعض مساربها وأزقتها الخلفية.

هذه اليوميات تعكس، بأسلوبها وموضوعاتها، رؤية للذات والعالم والكتابة لا تحدها حدود جغرافية أو فكرية، ولا تأسرها تصورات أيديولوجية، وإنما تنفتح فيها الكتابة على وجود يجعل من الكاتب ذاتا قابلة لكل صورة، كما هي ذات الصوفي في انفتاحه على الوجود. فالشاعر في عرف صاحب هذه اليوميات، مقيما فيه ومترحلا، هو ابن العالم.

15