يساري مصري يطرح مبادرة للانتقال من وضع السلطة القابضة إلى وضع النظام

السياسي عبدالحليم قنديل يؤكد أن الاستقرار بتفاعلاته الداخلية وتوزيع الأدوار وفصل السلطات يستطيع أن يصنع حالة توازن داخلي قادرة على تصحيح ما تيسر من أخطاء.
الثلاثاء 2019/10/08
عبدالحليم قنديل: أي دعوة لتحرك جماهيري في مصر تطلقها جماعة الإخوان المسلمين أو دوائر قريبة منها لن تلقى استجابة

رغم فشل الاحتجاجات التي شهدتها مصر مطلع شهر أكتوبر في تحقيق أي اختراق يذكر أو إحداث تأثير سياسي مباشر، إلا أنها كشفت عن شرخ اضطر النظام لإفساح المجال لعدد من الوجوه المعارضة التي توارت عن الساحة الأعوام الماضية، بينها الصحافي والسياسي اليساري عبدالحليم قنديل، الذي تحدث في لقاء مع “العرب” حول تطورات الحراك السياسي في مصر في الفترة الراهنة.

عُرف الصحافي والسياسي اليساري عبدالحليم قنديل بتأييده للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عند ترشحه في الانتخابات الرئاسية، واعتبره “مرشح الضرورة”، لكن لاحقا وجه انتقادات حادة للأوضاع السياسية في البلاد، مطالبا بإدخال إصلاحات ومنح قوى المعارضة حقها في التعبير عن نفسها بحرية، وفجأة توارى عن الأنظار، ولم يسمع له صوت.

وصدر ضده حكم من إحدى المحاكم المصرية بالسجن ثلاث سنوات، على خلفية تهمة “إهانة القضاء”. وفي مايو الماضي حصل على عفو صحي بموجب قرار رئاسي وتم الإفراج عنه.

وفي تعليقه على الاحتجاجات التي شهدتها مصر مطلع شهر أكتوبر قال عبدالحليم قنديل، في حواره “العرب”، إن دعوات رجل الأعمال الهارب محمد علي تخيلية، مستبعدا إمكانية عودة الإخوان إلى المشهد السياسي المصري في المدى المنظور. ولفت إلى عدم قدرتهم على القيام بأي حراك ثوري حقيقي، وقد أعلنوا مرارا عن قرب وقوع ثورات، بلغت نحو 12 مرة وجميعها باءت بالفشل.

وأشار إلى أن أي دعوة لتحرك جماهيري في مصر يطلقها الإخوان أو دوائر قريبة منهم لن تلقى استجابة، لأن الجماعة تعرضت للإنهاك بفعل الضربات الناجحة للأجهزة الأمنية، والكراهية الشعبية المتزايدة نحوها، وهجرة كوادرها الأساسية للخارج، ولم يعد هناك تفاعل شعبي معها.

لكن، لفت إلى ذلك لا يعني البقاء في نفس المربع، بل هناك ضرورة عاجلة للإصلاح والتحول من وضع “السلطة القابضة” إلى وضع “النظام”.

رفض شعبي للإخوان

أكد قنديل أن الرفض الشعبي للإخوان لا يعني استقرار الأوضاع، فقد استغلت الفيديوهات مساحة الفراغ في المجال العام، وتسللت إلى الرأي العام، ما يؤكد أن ثمة احتقانا سياسيا واقتصاديا في البلاد، قد يهدد بانفجارات اجتماعية واسعة النطاق، لا علاقة لها بالإخوان لأنهم أبعد ما يكون عن الفقراء والديمقراطية.

وانتقد الإجراءات الأمنية التي استهدفت إغلاق مقاه وسط القاهرة. ولا يجد مبررا لذلك. وعند تأمل الصورة بعمق المتعلقة بالأصوات التي افتعلت المظاهرات يومي 20 و27 سبتمبر الماضي، يجدها تجمعات تضم العشرات من الأفراد للتصوير بالهاتف المحمول في الأماكن النائية على أطراف التجمعات السكانية ثم يرسلونها إلى قنوات الجزيرة أو القنوات التركية لتسويقها كمظاهرات.

وقال قنديل، قبل الحديث عن الإصلاح المطلوب، ينبغي التساؤل عن مصير الثورة المصرية، فثمة ثورة شعبية كبرى قامت في مصر في 25 يناير 2011. ويلفت إلى أن ثورة 25 يناير سبقتها دعوات قبل اندلاعها بسبع سنوات عبر حركة “كفاية” التي كان قنديل أول متحدث رسمي باسمها، وكان المنسق العام لها حتى اندلاع الثورة.

ضرورة إطلاق اليد على الحريات
ضرورة إطلاق اليد على الحريات

وأوضح أن هناك ظروفا موضوعية عدة توافرت لاندلاع ثورة 25 يناير، وهي لحظة التجمد التي بلغها نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، إذ لم يعد قادرا على إجراء تصحيح. وكان مبارك يقضي غالبية وقته في شرم الشيخ بعيدا عن اختناقات البلاد التي تحولت إلى ما يشبه الحكم العائلي، ما أثار استفزاز الشعب.

وبلغ الفساد ذروته، ما أدى إلى شفط الثروة والسلطة، فضلا عن تزوير الانتخابات بصفة منتظمة، وتجمدت الحياة السياسية (الشرعية)، فلم يجد الناس منفذا إلا عبر حركة “كفاية” وأخواتها من الحركات المعارضة، وفي ظل هذه الأجواء وصل النظام الحاكم إلى حالة من الجمود عجز خلالها عن إجراء إصلاحات تجلب المزيد من الرضا، وهو ما كان حافزا لاندلاع الثورة.

ولعبدالحليم قنديل مجموعة من الكتب، أهمها “الأيام الأخيرة” وصدر عام 2008 وتنبأ فيه بانتهاء حكم الرئيس مبارك، وتوقع أيضا إزاحة الرأس بينما سيظل النظام قائما، وتطرق فيه لتشكيل حزب وطني اجتماعي ديمقراطي ينتمي إلى يسار الوسط الذي تنتظره مصر، إذا كانت تريد أن تتقدم بالثورة وإحداث تغيير سياسي واجتماعي واقتصادي، لكن الثورة لم تجد حزبا أو تحالفا يشبهها ينقلها من الميدان إلى البرلمان والحكم.

وألمح إلى أن وصول الإخوان إلى الحكم كان أمرا موضوعيا لأن تضخم اليمين الديني وفي قلبه الإخوان يعبر عن غياب السياسة والبرامج القادرة على تصحيح الطريق، فتضخم اليمين الديني في سياق من انفتاح الرئيس الراحل أنور السادات، وانتصاره لهذا التيار في محاولة لإخلاء الساحة من اليسار، وانقلابه على اختيارات وسياسات سلفه جمال عبدالناصر، لتتحول مصر بعدها إلى ما يمكن وصفه بـ”رأسمالية المحاسيب”.

وأضاف أن المصريين خرجوا في ثورة 30 يونيو 2013 ضد حكم الإخوان المسلمين، لكن ظلت الثورة بلا حزب يشبهها، وقادر على الانتقال بها من الميدان إلى البرلمان، فانتقلت البلاد من حكم الإخوان إلى حكم جهاز الدولة.

وكان قنديل وصف السيسي بأنه “بوتين مصر”، أي حاكم من قلب النظام. وهو “ابن الدولة” وابن القوات المسلحة التي تشكل النخاع العظمي للدولة المصرية، فهو رجل نظام، والجيش مؤسسة نظامية وليس حزبا ثوريا، وهذا ليس عيبا، وتلك هي طبيعة المرحلة التي نعيشها.

وفي الوقت الراهن نتحدث عن نظام حكم قائم له طبيعة معينة، نحاوره أو نعارضه، لكن فكرة خلعه ستحدث فراغا يحتله الغير، في ظل عدم وجود قوى لديها القدرة على ملء هذا الفراغ.

وطرح قنديل رؤيته للخروج من الاشتباك الراهن والوضع المأزوم، قائلا إنه يقف بجانب أي جهد جاد لبناء حزب أو تنظيم الثورة، ولا يتصور أحزابا متشابهة في الرؤى والأفكار وتظل منفصلة، بينما ما تتفق عليه أعلى مما تختلف عليه، ثمة حاجة ضرورية إلى تحالف وطني إلى يسار المجتمع، ولا يمكن لهذا التحالف أن يقوم دون عمود فقري، وكي تتم هذه الفكرة لا بد من وجود حزب أكبر من الآخرين قادر على القيام بدور العمود الفقري، فالأحزاب الحالية متقاربة في قوتها لذلك لا يصمد تحالف بينها إلا في الملمات.

الخروج من الأزمة

تأتي هذه الإمكانية، في نظر قنديل، من أزمة السلطة الداخلية، فما هو قائم هو “سُلطة” ولا يسميه “نظام”، الذي يعني دستورا وقواعد تنظم عمل المعارضة وتحيي المؤسسات وتفصل السلطة التشريعية عن التنفيذية، لكن القائم حاليا هو سلطة قابضة، وتمسك بزمام الوضع، وهذه السلطة يمكن إقامتها لبعض الوقت، لكن لا يمكنها أن تضمن استقرارا مستمرا.

وأوضح أن الاستقرار بتفاعلاته الداخلية وتوزيع الأدوار وفصل السلطات يستطيع أن يصنع حالة توازن داخلي قادرة على تصحيح ما تيسر من أخطاء. وهذا يأتي عبر تطبيق الدستور، وعلى الرغم مما جرى من تعديلات تتعلق بمدة الرئاسة أو غيرها، إلا أن الدستور القائم ينطوي على جملة مكاسب كبيرة اقتصادية واجتماعية وسياسية، والتحول إلى نظام يقتضي تطبيق الدستور كورقة وحيدة موجودة في المشهد السياسي ومنتسبة إلى ثورة يناير. وأشار إلى أن مصر تحتاج مبادرة وطنية جامعة لإجراء تصحيح الأوضاع في عناصر أساسية، أهمها استكمال الاستقلال الوطني للبلاد عبر عودة صناعة القرار الوطني في القاهرة الذي غاب منذ نحو أربعة عقود سابقة، والرئيس السيسي نفسه قال خلال لقاء مغلق مع عدد من المثقفين إن واشنطن كانت تملي أوامرها عبر الهاتف لتنفذها القاهرة في العهود السابقة.

يشهد الوضع الراهن وجود الجيش المصري في سيناء كلها بكامل هيئته بقواته الجوية والبرية وبقواعد فوق الأرض وتحتها، وهو ما لم يحدث منذ هزيمة يونيو 1967، وهذا من التحولات الإستراتيجية المهمة، لكن دعا قنديل إلى ضرورة وجود عدالة اجتماعية، فهناك تفاوت رهيب ومريع في توزيع الثروة ينطوي على إمكانيات مرعبة لانفجارات مجتمعية قد تصعب معالجتها إلا بالالتفات إليها بالتشريع.

وكشف أنه نصح السيسي في بداية حكمه بالقيام بـ”مذبحة مماليك مثل التي قام بها محمد علي باشا للقضاء على إمبراطوريات الفساد وهي الحرب التي ستوفر موارد مالية ضخمة للدولة”.
وأكد أن ثمة ضرورة للإطلاق التدريجي للحريات العامة، فلا يمكن أن تستمر البلاد مع استمرار العمل بقانون الطوارئ، كما أن الأوضاع التي آلت إليها الصحافة والإعلام سيئة للغاية.

وطالب بضرورة إطلاق الحريات العامة، بدءا من حرية الصحافة والرأي والتعبير وحريات التنظيم والحركة، لافتا إلى أنه جرى التساؤل من حين لآخر عن دور الأحزاب ولماذا تتوارى ولماذا لا تقوم بدورها، بينما في الأساس لا يسمح لها أن تفعل شيئا على الإطلاق، فلا يوجد حزب الآن بوسعه عقد مؤتمر جماهيري، بينما يفترض على الأحزاب العمل مع البشر، فالحزب ليست وظيفته إطلاق البيانات.

وشدد على أهمية تفكيك جملة القيود وتوسيع المجال العام حتى لو جرى ذلك بصورة متدرجة، وهو أمر تفرضه الضرورة، لأن حصانة المجتمع المصري أصبحت ضعيفة.

بلغ الفساد ذروته، ما أدى إلى شفط الثروة والسلطة، فضلا عن تزوير الانتخابات بصفة منتظمة، وتجمدت الحياة السياسية (الشرعية)، فلم يجد الناس منفذا إلا عبر حركة "كفاية" وأخواتها من الحركات المعارضة

وكتب قنديل من قبل عن “إخلاء سبيل مصر”، وطالب بوضع خط أحمر فاصل بين السياسة والإرهاب، واعتبر هذا الخط الفاصل هو الدليل لفتح المجال السياسي وتبييض السجون. ومن صلاحيات الرئيس أن يصدر عفوا أو يعرضه على البرلمان على أن يقضي بإخلاء سبيل كل المتهمين والمحكومين في أي درجة من درجات التقاضي وإطلاق سراح الكل عدا المتهمين في قضايا عنف وإرهاب مباشر.

وشدد على تفكيك الاحتقان على وجه عاجل عبر إصدار هذا القانون دون النظر للاتجاه السياسي، فضمان الحقوق البشرية والآدمية مقدم على اختلافات السياسة لكنه ليس مقدما على اختلافات الإرهاب الذي يطيح بحق الحياة، والسيسي نفسه قال أكثر من مرة إن هناك مظاليم وأنشأ لجنة للعفو الرئاسي، وتم إعداد قوائم تضم المئات، لكن هذا لا يكفي، لأنه يخرج المئات ويدخل غيرهم الآلاف.

وفي تقدير قنديل أن السلطة القائمة ليس أمامها وقت لشراء عمر أطول سوى الانفتاح، فلا حل سواه، لأن عناصر الاحتقان هي عوامل تفكيك وتفجير كامنة بأوسع آلالاف وربما ملايين المرات من الدعوات التافهة و”الهاشتاغات” القائمة، فثمة خطورة على أوضاع البلاد ونحن حيال مجتمع ساخط تحت حد النطق.

وخلص إلى أن الإصلاح حاجة ضرورية للتحول من وضع “السلطة القابضة” إلى وضع “النظام”، لأن هناك فرقا بين ضمان الأمن وكونه مستتبا وبين الاستقرار الذي لا يخلقه إلا النظام، والاستقرار لا تهزه مظاهرة فما المشكلة في إطلاق حرية التظاهر مع دستور يؤكد أصلا على حق الإضراب والتظاهر والاعتصام السلمي.

7