وثائق تاريخية تلخّص حياة "العم نجيب" ومسيرته الأدبية

أن يجمع الكاتب بين الإبداع والوظيفة أمر بالغ الصعوبة، نظرا لما تتطلبه الوظيفة من انضباط ولما يتطلبه الإبداع من تحرّر من كل قيد. لكنّ خيطا خفيّا يربط بين المبدع والموظف، هو الصرامة في العمل، فالمبدع كما هو صارم في ما ينجزه من إبداع هو أيضا صارم في ما يقوم به من عمل. وهكذا كان الكاتب المصري نجيب محفوظ.
القاهرة - ألقى معرض “محفوظ بختم النسر”، الذي افتتح مساء الأحد 1 سبتمبر في القاهرة، الضوء على جوانب من حياة أديب نوبل نجيب محفوظ، متعلّقة بملفه الوظيفي وأوراقه الرسمية وشهاداته الدراسية وغيرها من المستندات، ورسمت هذه الأوراق المختومة بدورها ملامح شخصية محفوظ المبدع المتفرد، الذي حرّره الفن من قيود الوظيفة والعمل الحكومي في وزارات مختلفة.
مثلما أن الصرامة والاجتهاد والانضباط ولوازم المعرفة والتثقّف والعمل الاحترافي المنتظم أمور حاضرة بقوة في أدب نجيب محفوظ دون أن تتعارض بطبيعة الحال مع جوهر الإبداع لديه ومعانيه الحقيقية المقرونة بالاتقاد والابتكار والخروج عن الأنساق وإقامة منهج شامل للتطوير، فإن هذه “التوليفة” بعينها تبدو ماثلة في شخصيته وأدائه كموظف حكومي عمل في وزارات مختلفة بعقل متّزن وروح وثابة متمردة على الروتين والنمطية.
ندرة وشمولية
يستمر المعرض في مقر متحف نجيب محفوظ بتكية أبوالدهب الأثرية في القاهرة التاريخية خلال الفترة من 1 إلى 8 سبتمبر، ويكشف الستار عن أوراق محفوظ الرسمية عبر مسيرته الحافلة من خلال سبعين وثيقة حكومية تفتح الباب لقراءات جديدة في حياة محفوظ الإنسانية والوظيفية والإبداعية.
وثائق نجيب محفوظ الموظف، الذي بدأ عمله كاتبا في إدارة المستخدمين بالجامعة، ليست مجرد أوراق رسمية
عرف نجيب محفوظ على مدار عمره الممتد كيف يوازن بين شروط الوظيفة ومتطلبات الإبداع، وظل محافظا على عمله سنوات طويلة منذ منتصف الثلاثينات حتى مطلع السبعينات، في الجامعة المصرية، ثم في وزارة الأوقاف، ثم في مصلحة الفنون ووزارة الإرشاد القومي (الثقافة)، وقد عمل محفوظ كرقيب سينمائي وتولّى الإشراف على المؤسسة العامة للسينما، وإدارة التخطيط السينمائي، ورئاسة مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما.
وفي ذلك كله لم يطغ الموظف على الأديب، ولا الأديب على الموظف، إلى أن حانت لحظة شعر فيها محفوظ بضرورة التفرّغ للأدب، فاستقال من أعباء الوظيفة، وتحرّر المبدع من القيود.
الحياة بالغة التنظيم والجدية والصرامة إلى درجة الهوس أو العبث هي سرّ نجاح محفوظ في عالميه؛ الأدبي والوظيفي معا، وهي كذلك سرّ استقرار وسعادة حياته الشخصية والعائلية واحتفاظه بصداقات أسطورية فريدة عبر سنوات العمر “شلة الحرافيش”. وفي داخل عالميه؛ الأدبي، والوظيفي، تتجلى ملامح محفوظ، المتجذّر في الأرض الموروثة بعمق، الطامح إلى مطاولة سابع سماء بالدأب والطموح والابتكار والتطوير والنهج على غير منوال.
رسم المعرض مسارا لحياة محفوظ الرسمية من خلال أوراقه وشهاداته ومستنداته وملفاته الوظيفية، وفي الوقت ذاته قدّم مفاتيح جديدة لقراءة محفوظ كمبدع مرهف، يقابل شؤون الوظيفة ومقتضياتها اليومية بشخصية الأديب: عقلا وروحا وإحساسا.
لعل تلك الأوراق الرسمية، التي استعارها معرض تكية أبوالدهب من الملحق المصوّر في كتاب “نجيب محفوظ بختم النسر” لطارق الطاهر (المركز القومي للسينما)، تكون نقطة انطلاق كذلك لقراءات متعمّقة حول صورة الموظف في أدب نجيب محفوظ، وهل جاء نمط الموظف المثالي في رواياته مطابقا لما سعى محفوظ إلى تجسيده بنفسه في وظائفه المختلفة؟
اتسمت أوراق المعرض بالأهمية والندرة والشمولية، فهي ملخص كامل لمحطات محفوظ الدراسية منذ شهادة إتمام المرحلة الابتدائية في 1925 وصولا إلى شهادة ليسانس الآداب في 1934، وهي مستندات منوّعة في مجالاتها الوظيفية في الوزارات المختلفة التي عمل بها محفوظ (المعارف “التعليم”، الأوقاف، الإرشاد القومي)، ومنوّعة كذلك في موضوعاتها ومناسباتها: قرارات وزارية، تعيين، ندب، استقالة، فصل، تقييم، طلب إجازة، إقرار ذمة مالية، إلخ.
وثائق نجيب محفوظ الموظف، الذي بدأ عمله كاتبا في إدارة المستخدمين بالجامعة، ليست مجرد أوراق رسمية أفرزها الروتين المصري، لكنها في أحد جوانبها أيضا تأريخ للسيرة الذاتية للرجل، وتفسير للكثير من قراراته واختياراته وتنقلاته، وصولا إلى قرار التنحي عن الوظيفة، التي بلغ فيها درجة مستشار وزير الثقافة، انتصارا لقيمة الأدب التي لا تضارعها قيمة مادية.
جوانب خفية
أفرزت وثائق محفوظ كذلك مادة خصبة للإطلال على جوانب خفية من شخصيته، كموظف عام، وهي جوانب لصيقة بشخصيته كأديب طليعي مجدد، وفي ذلك ما يثبت صفة “الاستثنائية”، التي استنبطها طارق الطاهر في جمعه لهذه المستندات في كتابه، مشيرا إلى أن محفوظ قد حصل على تقييم 100 بالمئة في كافة التقارير السرّية حول أدائه الوظيفي، باستثناء عام 1954، حيث حصل على 94 بالمئة فقط بسبب اختلاف على تقييم أدائه بين مديره ورئيس المصلحة آنذاك.
خلال عمله كمدير للرقابة، على سبيل المثال، لخّصت أوراق محفوظ الرسمية رؤيته لطبيعة ذلك المنصب الحساس، الذي ربما ينظر إليه بعض المبدعين بقدر من التعفّف والتأفّف كونه قد يكون بابا لكبت الحريات، فمن وجهة نظر محفوظ أن “اختلاف درجات النضج بين الناس يستلزم الرقابة، الموجهة نحو القيمة الفنية”.
هنا تُثبت المستندات التي جمعها الطاهر أن مواقف محفوظ المختلفة أثناء شغله لهذا المنصب تركت بصمة كبيرة، واستطاع الرجل “أن ينتشل الجهاز الرقابي من مسلسل الرشاوى التي كانت منتشرة في ذلك الوقت”.
أمر آخر، غير ثانوي، يتعلق بمستندات محفوظ الرسمية، هو لغة الخطاب فيها، في القسم الخاص بالوثائق التي كتبها محفوظ بنفسه، إذ شكلت نهجا جديدا ينتمي إلى ميدان الأدب، ويتجاوز السائد وقتها، فهي مكتوبة بحسّ إبداعي وخط بديع واختزال شفيف.
في هذا الصدد، يذهب الطاهر إلى أمر لا يعده مبالغة، هو أن نجيب محفوظ قد طوّر لغة الموظفين الإدارية السائدة في عصره، حتى في مكاتباته الاعتيادية، كطلبه إجازة مثلا من وكيل وزارة الثقافة في عام 1959 “أتشرّف بأن أرجو الموافقة على منحي إجازتي الاعتيادية، قانعا منها بالمدة من كذا إلى كذا، مراعاة للفترة التي قضيتها في رحلة يوغوسلافيا”.
معرض وثائق نجيب محفوظ بختم النسر، نافذة مدهشة ذكية للإطلال على فضاء مسكون بالمفاجآت، أو تلك الأسراب المحلّقة بأجنحة أديب وموظف فذ، يصعب أن يَجُود الزمان بمثله.