هل بقيت تونس خارج المصالحة الخليجية

معركة الإعلام الخليجي زادت حول تونس بالرغم من المصالحة الخليجية وما تلاها من تهدئة على بعض الجبهات وخاصة في اليمن وليبيا فضلا عن استجابة الجبهة الداخلية سياسيا وإعلاميا لتصدير الصراع إلى الخارج.
الخميس 2021/02/18
صدمة فشل الثورة

لا تكاد نشرة في فضائيات الخليج المعروفة تخلو من أخبار تونس، من القضايا الخلافية الكبرى بين الرؤوس الثلاثة للحكم (قيس سعيد، راشد الغنوشي، هشام المشيشي) إلى التفاصيل الصغيرة التي تحكي أحيانا عن طفلة صغيرة سقطت في بالوعة، إلى راعي غنم في ريف من أرياف الوسط الفقير انفجر لغم ليودي ببعض نعاجه في جبل سمامة أو السلوم..

السؤال المهم: لماذا هذا الاهتمام الكبير بتونس في أخبار أشقائنا الخليجيين، لماذا لم تشملها مصالحة قمة العلا بالسعودية التي طوقت إلى حد ما خلافات الخليج وأوقفت نشر الغسيل وتتبع الأخبار الصغيرة التي تسيء إلى هذا البلد أو ذاك؟

هناك حقيقة مهمة أن تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس مثار اهتمام الإعلام العالمي، الذي احتفى بها في البداية وأطلق عليها أوصافا تعبّر عن الإعجاب مثل ثورة الياسمين أو “الربيع التونسي الذي أشعل الربيع العربي”، لكنه الآن بات يبحث عن تفاصيل انتكاستها بدءا بالصراع السياسي وفضائح البرلمان وصولا إلى أخبار الاحتجاجات وقصص الانتحار التي تحدث في هذه المدينة أو تلك بسبب صدمة فشل الثورة وسقوط السقف العالي من الشعارات..

لقد صنعت هذه الفضائيات شبكة واسعة من المراسلين والمحللين والخبراء والمترجمين كترسانة لإدارة ملف الإسلام السياسي، ولا يمكنها أن تتخلى عن هذه الشبكة مرة واحدة

ولا يفتعل الإعلام الخليجي تركيزا خاصا عن تونس ولا يختلق قصصا عنها، وهو ينشر تفاصيلها مثلما ينشرها الآخرون. لكن الفارق أن الإعلام الغربي ينشر الأخبار في سياق تغطية عامة عن تونس، فيما الإعلام الخليجي ينشر الأخبار موجهة على نوعين: النوع الأول مع حركة النهضة الإسلامية والوجوه السياسية التي تدور في فلكها، أو تلك التي وقفت إلى جانب الفريق الخليجي الذي اصطفت وراءه النهضة وزعيمها راشد الغنوشي. أما النوع الثاني فيقف ضد النهضة ويتتبع أخطاءها ويستضيف خصومها ويفتح لهم مساحات مهمة للهجوم عليها، ونشر غسيلها.

وهكذا فالإعلام الخليجي منقسم بحسب انقسام المشهد التونسي، وكل فريق يتقصّى وينشر ما أمكنه جمعه من أخبار سواء التي تصب في خدمة حلفائه المحليين أو في الهجوم على خصومهم، ويمكن أن يحوّل خبرا صغيرا إلى قضية مستمرة.

وليس هذا الاهتمام مجانيا، ولا يعود فقط إلى حيوية المشهد التونسي وكثرة الفاعلين فيه وحدة الصدام بينهم، ولكن هو امتداد لمعركة أشمل حول الإسلام السياسي، فهناك من يستثمر في هذه الظاهرة ويروّج لها ضمن أجندة خاصة به مثل قطر التي كانت وما تزال تعتقد أنها تمسك بورقة الإسلاميين للحصول على دور إقليمي في العلاقة مع الولايات المتحدة، وهي ورقة وجدت صداها في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما وتراجعت بشدة في عهد دونالد ترامب ثم ها هي تعود للظهور مجددا مع إدارة بايدن.

ويتحرك هذا الإعلام بقوة وقت الضرورة حين يشعر بأزمة إسلاميي تونس، وخاصة ما تعلق بالغنوشي، الذي بات يتدخل، في لحظات الضغط القصوى عليه في الخلاف مع قيس سعيد، على صفحات الإعلام القطري، وخاصة الجزيرة مباشر، أو الجزيرة نت، إما للتصعيد أو التهدئة، وقد اتهم في أكثر من مرة بأنه يتعالى على الإعلام المحلي، وأن عليه بصفته رئيسا للبرلمان أن يدلي بحواراته وتصريحاته إلى الداخل قبل الخارج.

القضية التونسية بقيت الملعب الوحيد الظاهر في المعركة الخليجية – الخليجية ضد الإسلام السياسي أو معه بانتظار اتضاح معالم التهدئة على الجهات الأخرى

وهناك إعلام ثان، تمثله فضائيات الصف المقابل، تقف بقوة ضد الإسلام السياسي وتنظر إليه كعامل هدم وتخريب لمشاريع الدولة الوطنية. وتستضيف السياسيين المعارضين لما يطلق عليه “إخوان تونس”، وتنوع الاستضافات والأصدقاء والخطط.

ومن الملاحظ أن معركة الإعلام الخليجي زادت حول تونس بالرغم من المصالحة الخليجية وما تلاها من تهدئة على بعض الجبهات، وخاصة في اليمن، حيث بدا أن الجميع يصطف وراء السعودية في مسعاها لتطويق الحرب بين الحلفاء (حزب الإصلاح الإخواني والمجلس الانتقالي الجنوبي اللذان كانا محور الحرب الإعلامية ووقودها).

كما خفتت المعركة الإعلامية حول ليبيا بسبب دواعي “الحياد المفروض”، ويعود الأمر إلى وجود توافق دولي حول تسريع الحل السياسي، ما جعل الاهتمام الخليجي بالملف الليبي اهتماما خبريا مخففا من محاميل الاصطفاف السابقة بين فريقي المشير خليفة حفتر وجماعة طرابلس من الإسلاميين وحلفائهم من أمراء الحرب وقادة المجموعات المسلحة.

لقد أغفلت المصالحة حسم الموقف من الموضوع التونسي، وربما تركته بتوافق ضمني ليكون ملعبا يعبّر كل طرف من خلاله عن مواقفه في الملف الحساس، الإسلام السياسي، الذي بات هوية سياسية وإعلامية في الخليج، إذ لا يعقل أن تنطفئ نار الصراع الكبير مرة واحدة لمجرد هبوب نسمات المصالحة الخفيفة التي قد تتراجع في أيّ لحظة.

ولذلك تم الاحتفاظ بتونس كملعب لهذا الصراع خاصة أنها هامش في الاهتمام السياسي الدولي وليست مركزا حيويا يمكن أن يثير الاهتمام الإعلامي بها وتغذية الصراع فيها احتراز هذه الدولة أو تلك.

كما أن أطراف الأزمة الداخلية المتصارعة متحمّسة لهذا الاستقطاب الخارجي الحاد ومنخرطة فيه ومتحمسة لتصدير الأزمة. والمهم بالنسبة إليها تحقيق أجنداتها الحزبية والشخصية حتى لو أدى ذلك إلى دخول البلاد في أزمة معقدة منذ 2011 ويتم صبّ الزيت الحامي عليها باستمرار.

كذلك ليس من المنطقي التساؤل عن غياب التهدئة الإعلامية الخليجية – الخليجية تجاه الملف التونسي في الوقت الذي يستمر فيه الإعلام التونسي بالاشتغال بالحد الأقصى على تصعيد الأزمة الداخلية من خلال الاصطفافات الحادة واللعب على التناقضات.

لا يفتعل الإعلام الخليجي تركيزا خاصا عن تونس ولا يختلق قصصا عنها، وهو ينشر تفاصيلها مثلما ينشرها الآخرون

وهناك حقيقة موضوعية أخرى تتطلب احتفاظ الإعلام الخليجي والجهات الممولة بنافذة حية لهذا الصراع، وهي الحفاظ على استمرار هذا الإعلام نفسه، وخاصة الفضائيات التي جعلت البرامج السياسية الحامية واجهة لاستقطاب الجمهور، ولا يمكنها أن تقبل باختفاء كل الملفات دفعة واحدة وإلا فقدت بريقها، ويصبح من الصعب عليها العودة في مرات قادمة لتحريك هذا الملف أو غيره من الملفات.

لقد صنعت هذه الفضائيات شبكة واسعة من المراسلين والمحللين والخبراء والمترجمين كترسانة لإدارة ملف الإسلام السياسي، ولا يمكنها أن تتخلى عن هذه الشبكة مرة واحدة، ولذلك تمثل النافذة التونسية فرصة لاستمرار التدريب والاشتغال على قضية الخلاف الرئيسية بانتظار عودة مرتقبة للمعركة على نطاق واسع في ضوء توقعات منطقية بأن المصالحة هي تهدئة مؤقتة ناجمة عن ظروف طارئة تقوم على اختبار مواقف إدارة بايدن تجاه الملف ومن ضمنها معرفة حدود التحرك وهوامشه لداعمي الإسلام السياسي وخصومه على حد سواء.

وبالنتيجة، فإن القضية التونسية بقيت الملعب الوحيد الظاهر في المعركة الخليجية – الخليجية ضد الإسلام السياسي أو معه بانتظار اتضاح معالم التهدئة على الجبهات الأخرى.

9