إيران تحتاج إلى حكمة الفرس وليس فتاوى الخميني

استقطاب الرأي العام عبر الترويج لمواقف الثورة ضد إسرائيل وطريق "تحرير القدس" قد يفيد في الحرب على العراق أو في وضع اليد على صنعاء أو دمشق لكنه لا يفيد مع إسرائيل.
الثلاثاء 2025/06/17
الرياح لا تجري لصالح إيران

في المفاصل الكبرى من حياتها تلجأ الأمم إلى ذاكرتها لاستعادة الحكمة خاصة حين تكون في محنة مثلما هو الحال بالنسبة إلى إيران التي تجد نفسها في مواجهة حرب قد تمحو مكاسب عقود من التمدد والنفوذ.

يعرف الفرس في تاريخهم بالحكمة والمرونة والكياسة والقدرة على المناورة. وهذه عناصر مهمة للاستلهام في الوقت الحالي من أجل تخليص إيران من حرب لا أحد يعرف كيف يمكن أن تنتهي، وعلى أي شكل. لكن الأغلب أن إيران ستكون هي المتضررة فيها لاعتبارات كثيرة منها أنها تحارب وحيدة ضد منظومة غربية أميركية إسرائيلية متينة، تملك التأثير الدبلوماسي والإعلامي وتتفوق في السلاح بأشكاله المختلفة مستفيدة من المزايا الهائلة للذكاء الاصطناعي. كما تمتلك القدرة على بناء شبكات استخبارية تستطيع في تحرك واحد أن تصفي شخصيات مهمة كما جرى مع حزب الله في وقت سابق، ومع القادة العسكريين في إيران والمشتغلين في البرنامج النووي يوم الجمعة.

الأمم لا تكابر في التعاطي مع مستقبلها. الحقيقة واضحة، التيار لا يسير لصالح إيران، ولا يمهد لها طريق الخروج في موقع مريح لو تمسكت بمواصلة الحرب. يمكنها أن تهدم عمارات سكنية أو تصيب مواقع عسكرية في إسرائيل، وأن تقتل أعدادا من المدنيين وتجرح العشرات، لكن الفوارق كبيرة في النتائج، ومع مرور الوقت ستتضح الفوارق أكثر وتتسع الهوة. يكفيها أنها حققت حدا أدنى مما تعتبره “توازن الردع” على الأقل في أذهان شعبها وأنصارها في الإقليم.

بالعقل، فإن الانسحاب من الحرب في هذه اللحظة خطوة ذكية تطوق الأزمة وتحد من سيل الخسائر وتعطي البلد/ الأمة فرصة ليعيد تقييم الوضع بشكل إستراتيجي بعيدا عن شعارات وأوهام تصدير الثورة. الانسحاب في اللحظة الحالية يحمي البرنامج النووي، ويبقي على ما تبقى من قدرات عسكرية وخبرات وخبراء لم تصل إليهم آلة الاستخبارات الإسرائيلية المزروعة في إيران بشكل غير مسبوق. فإن تخسر عشرين في المئة مما تملك من قدرات أفضل من أن تخسر ثمانين أو تسعين.

◄ الفرصة مواتية الآن لاتخاذ القرار الأكثر أهمية في تاريخ إيران، وتبني براغماتية تحول النكسة العسكرية إلى مكسب معنوي يمكن الإيرانيين من وقت لمراجعة مسار 46 عاما من ثورة الخميني

الفرصة مواتية فعلا. إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تريد أن توقف الحرب، ليس لأن حليفتها إسرائيل خسرت أو باتت مهددة في وجودها، ولكن لأن الضربات الإسرائيلية من البداية كان الهدف منها الضغط على إيران لتجلس إلى مفاوضات البرنامج النووي في وضع أضعف وتقبل بما يريده ترامب، أي التعهد بعدم التخصيب لمستويات ممنوعة ووضع البرنامج كله تحت الرقابة.

ترامب يتحرك يمينا ويسارا لتوسيط أصدقاء وحلفاء لإقناع إيران بالاكتفاء بهذا المستوى من الحرب والجلوس للتفاوض. أميركا تريد ضرب إيران بشكل جزئي، وليس ضربات قاصمة تنهي النظام، ليس حبا في المرشد الأعلى علي خامنئي، ولا الرئيس مسعود بزشكيان، ولكن لأن إنهاء النظام يفتح أبواب الفوضى في المنطقة بشكل يخسر فيه الجميع؛ أميركا وحلفاؤها وإيران.

في أي نظام هناك عقل محوري يحركه، وحين يختفي النظام يترك مكانه للتفجيرات والاغتيالات ولظهور مجموعات متطرفة صغيرة العدد تضع شعارا لها القتل ولا شيء غير القتل. يمكن أن تظهر تنظيمات شيعية متشددة شبيهة بالقاعدة وداعش في إيران واليمن ولبنان والعراق وفي الخليج من الخلايا النائمة.

سيكون الأمر مختلفا عما تفعله أذرع إيران حاليا أو في وقت سابق. هذه الأذرع تتحرك وفق تعليمات تأتي من إيران، فإذا طلبت التهدئة مال الجميع إلى خطاب الاعتدال، وإذا صعدت خرجت فتاوى عن الجهاد، لكن المفتاح يظل دائما في إيران.

دفع حزب الله ضريبة كبرى بسبب هذا المفتاح، فطهران كانت تريد من الحزب أن يكتفي بالمناوشة والإسناد ما مكن إسرائيل من تصفية حماس ثم الالتفات إليه لتصفي قياداته السياسية والعسكرية، والآن يبدو أن الدور على إيران إذا لم تتحاش الصدام وتعلن القبول بوقف إطلاق النار مقابل إلزام إسرائيل بوقف متزامن وبضمانات أميركية. المهم هو وقف الحرب بأقل الخسائر وليس البحث عن “انتصار” لتسويقه في الداخل.

لا يريد الداخل الإيراني في أغلبه “نصرا” يقود إلى خسائر كبرى في القيادات العسكرية والعلمية ويعيد البلد عشرين عاما إلى الوراء ويضع الناس تحت وقع الخوف والانتظار وخاصة التقشف القاسي لتقدر الدولة على استعادة تعافيها عسكريا. التقشف الحكومي سينقلب زيادات في الأسعار وندرة في المواد الحياتية، وبدلا من أن تنفق الدولة عائدات النفط على حياة الناس تظل تطارد أوهام النصر التاريخي التي جاءت بها ثورة الخميني في 1979، ووهم استلهام الأمم من ثورة إيران وشعاراتها الكبرى، التي خبا بريقها مع الوقت ومنذ الحرب ضد العراق، ثم الاختراق المنظم لدول الإقليم.

◄ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تريد أن توقف الحرب، ليس لأن حليفتها إسرائيل خسرت أو باتت مهددة في وجودها، ولكن لأن الضربات الإسرائيلية من البداية كان الهدف منها الضغط على إيران لتجلس إلى مفاوضات البرنامج النووي

الحرب ضد إسرائيل ليست السيطرة على صنعاء واقتطاع الجانب الأهم من مدن اليمن، ولا وضع اليد على العراق بالتحالف مع “الشيطان الأكبر”، أو دخول سوريا لإنقاذ نظام الرئيس السابق بشار الأسد، واستجلاب الميليشيات من كل حدب وصوب. حرب مختلفة لا يفيد فيها التحشيد المذهبي ولا الاستقطاب السري، ولا استدعاء معارك التاريخ ومؤامراته ومظلومياته وقصصه الخارقة. حرب تقوم على القوة العسكرية والتقنيات الحديثة، وهنا الهوة تبدو كبيرة وواسعة، حتى وإن كان الرد الإيراني دفاعا عن النفس وعن مشروع النفوذ الإقليمي الذي صرفت لأجله ثورة 1979 المليارات وقطعت فيه خطوات كبيرة خاصة ما تعلق باستقطاب الرأي العام.

لكن استقطاب الرأي العام عبر الترويج لمواقف الثورة ضد إسرائيل وطريق “تحرير القدس” قد يفيد في الحرب على العراق أو في وضع اليد على صنعاء أو دمشق لكنه لا يفيد مع إسرائيل. وإذا كانت إيران تقيس نفوذها الإقليمي بالنجاح في استقطاب المثقفين العرب، الذين كان أغلبهم يسبها صباح مساء في حربها مع صدام، فحساباتها خاطئة لأن النخب في مجملها متقلبة وتسير حيث تسير الريح، الكثير منها أكل على موائد صدام ورفع شعاراته وصفق للقذافي وتهويماته، ثم ركب موجة “الربيع العربي” وتحمس للديمقراطية الوافدة، ثم انقلب عليها.

تشعر هذه النخب بالحاجة إلى تعويض هزائمها الأيديولوجية وفشلها الذاتي بالبحث عن دعم صور وخلق رموز والتعلق بها مثلما حصل مع أمين عام حزب الله حسن نصرالله. أين تلك النخب حين قتل نصرالله أو السنوار أو هنية وقاسم سليماني.

أكبر استهداف طال الدور التاريخي لإيران هو التبشير بتصدير الثورة وصناعة تشيّع ثوري يهدف إلى السيطرة على العالم عبر بناء الشبكات والتنظيمات. وبعد أكثر من 46 عاما على ثورة الخميني أو بناء “النموذج الإسلامي”، هل يمكن الحديث عن مكاسب نوعية لإيران أو عن تجذر نفوذها في الإقليم؟ في الظاهر نعم، لكن في الواقع أمر آخر تماما، حيث رهنت الثورة مستقبل إيران ونفوذها لشعارات مذهبية فضفاضة ضيعت عقودا من التغيير والتطوير ومجاراة الدول المتطورة اقتصاديا وعسكريا وعلميا. وإذا استمر النظام الحالي على نفس الشعارات، فإن إيران ستخسر المزيد من الوقت على الأوهام، لكن الخطر أن هذه الشعارات يمكن أن تقود إلى إنهاء إيران كأمة وازنة تاريخيا وتحويلها إلى قوة هامشية في الإقليم.

الفرصة مواتية الآن لاتخاذ القرار الأكثر أهمية في تاريخ إيران، وتبني براغماتية تحول النكسة العسكرية إلى مكسب معنوي يمكن الإيرانيين من وقت لمراجعة مسار 46 عاما من ثورة الخميني وفتح الباب أمام تغيير سياسي يصالح إيران مع ذاتها ومستقبلها ومع محيطها.

ليس المهم تغيير النظام، ولكن الانتفاض على ثورة لم تجلب سوى المزيد من الخسارات والفتاوى الميتة.

 

اقرأ أيضا:

       • الحرب الإسرائيلية - الإيرانية: فصل جديد في تاريخ المنطقة

       • عرب إسرائيل وعرب إيران

       • حسابات الحرب ونهاية الوكالة: تصدّع أذرع إيران في العراق

       • أيّ إيران تريد أميركا وإسرائيل

8