ماذا لو اتّبعت حماس خطوات الشرع

لا أحد كان يتوقع أن يستدير الرئيس السوري أحمد الشرع بهذه السهولة واليسر وفي وقت محدود من زعيم مجموعة جهادية ترفع السلاح كآلية وحيدة للتعامل مع الآخرين إلى رئيس دولة براغماتي نجح في طمأنة أغلب المحيط الإقليمي الذي لا يرى في تجارب الجهاديين غير الدماء والتخريب.
كان من الواضح أن الشرع قد حسبها جيدا وقارن بين التمسك بصورة القائد العسكري القوي الذي سيطر على دمشق في أيام معدودة وحوله مقاتلون متعطشون للانتقام وينتظرون إشارة لاستكمال معارك قديمة ذات أبعاد طائفية ومذهبية وعرقية، وبين صورة رئيس الدولة في بلد يعمه الخراب ولم يعد يقدر على الاستمرار في الحرب، فاختار الخيار الثاني.
كان يمكن للشرع أن يستمر على صورته القديمة كجهادي ليس في سجله سوى الموت له أو لخصومه، كما فعل من قبله بن لادن أو الظواهري وحركة طالبان أفغانستان، وأن ينظر إلى مجده الشخصي بين الجهاديين، وليست مهمة لديه النتائج. لكنه اختار الطريق الثانية، أن يكون رئيس دولة في بلد خارج من حرب ويحكمه تيار جهادي.
كانت الخطوة الأولى طمأنة الخليجيين بأن الشرع جاد في أن ينزع جبة الجهادي ويلبس جبة رئيس دولة في محيط إقليمي لا يقبل بدولة متنطعة، وإذا تمسك بذلك فسيكون مصيره مثل مصير حزب الله وحركة حماس والحوثيين خاصة أن سوريا على حدود إسرائيل، وقبول وضع مثل هذا مستحيل.
◄ سيكون من المهم أن تسرع حماس باستغلال فرص التفاوض للتوصل إلى حل عاجل لإنقاذ أرواح الناس حتى لو كان ذلك على حساب مصلحة الحركة وصورتها الخارجية،
ونجح الخليجيون وتركيا في نقل صورة الشرع، الرئيس البراغماتي الذي يريد أن يعطى فرصة، إلى إدارة ترامب، ويبدو أنهم قدموا أنفسهم كضامنين له، ما مكن من ترتيب لقاء بينه وبين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ويثني عليه ويطلق عليه أوصافا جيدة كما لو أنه يعرفه منذ زمن.
استوعب الشرع سريعا أن الجهاد (أو النضال) لن يفضي سوى إلى محاصرة سوريا ويزيد من الأعباء على الناس الذين يعيش الكثير منهم تحت خط الفقر، وهو ما يعني أنه سيعيد تجربة سلفه بشار الأسد، وإن اختلفت الشعارات فإن النتيجة واحدة. معاداة إسرائيل حتى ولو بالكلام كما فعل بشار ستعني آليا استمرار الحصار والفقر والجوع.
ما يجري حاليا من احتواء لدمشق مدروس ويهدف إلى منع قيام دولة جهادية على حدود إسرائيل، ولا أحد يضمن كيف ستكون ومدى خطرها، ولذلك يجري تحييد الشرع ومساعدته على دخول مربع الاعتدال، لكن لا يزال من المبكر الحديث عن تطبيع أو علاقة مباشرة مع الإسرائيليين.
بالتأكيد سيوصف الشرع بأوصاف كثيرة من أنصار تيار المقاومة وجمهوره في الشرق الأوسط، وهو جمهور في أغلبه يمارس النضال الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي ويضع نفسه في منزلة من يوزع شهادات النضال واتهامات العمالة.
براغماتية الشرع وضعت سوريا أمام فرصة كبيرة لاستقبال الاستثمارات الخليجية والأوروبية بعد أن اقتنع ترامب بخطاب الرئيس السوري والضمانات الخليجية والتركية وقرر رفع العقوبات عن دمشق.
لن تهيئ براغماتية الشرع للسوريين جنة على الأرض، لكنها تجنبهم ويلات الحروب بالوكالة والدمار وتساعدهم على تأمين حياة كريمة في حدها الأدنى مع استقرار أمني واقتصادي وسياسي مثلما تعيشه دول الإقليم الأخرى.
لماذا تفتح دول الإقليم علاقات مباشرة مع إسرائيل، سرا وعلنا، ويطلب من سوريا لوحدها أن تقاطعها وأن تخوض الحرب؟ هل لدى الشرع فرصة أخرى لتمكين السوريين من حياة كريمة، وهو يعادي إسرائيل ويطلق ضدها يوميا البيانات المنددة. ماذا فعل الأسد من قبل بالبيانات، وماذا استفاد من تحالفه مع إيران وحزب الله، هل استثمرت إيران وروسيا في سوريا وأخرجتا اقتصادها من وضعه السيء.
◄ رغم أهمية الرهائن للإسرائيليين، إلا أن حكومة بنيامين نتنياهو تعرف أن حماس ستحتفظ بهم ولذلك تستمر في الهجوم على غزة
ماذا لو فكرت حركة حماس بهذه العقلانية قبل أن تقود طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023. لو أقمنا تقييما هادئا لنتائج هذا الطوفان لوجدنا أن حماس نفسها قد خسرت الكثير من المكاسب والقادة السياسيين والعسكريين دون أن تجني شيئا واضحا عدا المديح الذي تتلقاه من جمهور المقاومة، الذي هو جمهور افتراضي يصفق عن بُعد ولا ينفعها ولا يضرها.
نجحت براغماتية حماس في السنوات الأخيرة في أن تجعل إسرائيل تقبل بها، ولو مؤقتا بديلا لسلطة فلسطينية صارت في وضع الرجل المريض. تمتع الفلسطينيون في ذلك المناخ بالكثير من الخدمات الضرورية في حياتهم اليومية. لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح ولم يبق غير القتل والتدمير تحت أنظار العالم، فماذا ربحت حماس؟ وماذا ربح القطاع؟ هل حقا خسرت إسرائيل وأن طوفان الأقصى أضر بها واقعيا وبشكل ملموس؟ وحتى لو كان الأمر كذلك، هو لا يقارن بأضرار حماس والفلسطينيين.
لقد خسرت حماس الكثير من الخبرات العسكرية والسياسية وخسرت أرواح جزء كبير من الحاضنة الشعبية التي كانت تدعمها، وستجد نفسها في المرحلة القادمة خارج الحكم وربما خارج القطاع أيضا في ظل حديث عن تسوية لوقف الحرب مقابل عدة شروط منها ترحيل قادة حماس العسكريين والسياسيين إلى الخارج ليتم توزيعهم على دول عربية وإسلامية.
وهناك تساؤل أخلاقي مهم: من أعطى حماس الحق في التضحية بأرواح الناس كمعادل موضوعي للجهاد الذي تخوضه؟ من أفتى لها بتقديم عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمشردين والجوعى مقابل مقاومة تقتل وتأسر بضع عشرات من الإسرائيليين؟
بالمقاسات الحالية للفقه الإسلامي ليست هناك ضرورة جهادية تبيح هذا المحظور بتعريض أرواح الناس للخطر تحت أيّ مسوغ ولو كان الجهاد، وحفظ النفس هو محور مقاصد الشريعة، ما يجعل عصمة دماء المسلمين وغير المسلمين مقدمة على أيّ شيء سواها. والآية واضحة في ذلك بشكل كامل حيث تجعل قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعا والعكس أيضا إحياؤها كإحياء كل الناس.
◄ كان من الواضح أن الشرع قد حسبها جيدا وقارن بين التمسك بصورة القائد العسكري القوي.. وبين صورة رئيس الدولة في بلد يعمه الخراب
ما تقوم به حماس حاليا لا أفق له، وكان يفترض أن تستوعب ذلك مبكرا بعد ما جرى لحزب الله، الذي هو أكثر عددا وعدة، وعدم ترك الأمر للوقت والصدفة والرهان على العمق العربي رسميا أو شعبيا. هذه شعارات قديمة. الآن لن يصل سوى بعض التصفيق من نخب عاجزة، فيما إسرائيل تحصل باستمرار على الدعم من عمقها الغربي، الأميركي على وجه الخصوص.
ورغم أهمية الرهائن للإسرائيليين، إلا أن حكومة بنيامين نتنياهو تعرف أن حماس ستحتفظ بهم ولذلك تستمر في الهجوم على غزة، وحتى لو قتلوا كلهم بالقصف فليس هناك مؤشر على تراجع نتنياهو، الذي يحصل على ضوء أميركي بتفكيك حماس بأيّ طريقة.
وما يجري من حديث عن خلاف بين نتنياهو وترامب ليس سوى تفصيل جزئي لن يكون له تأثير على الأرض، كما أنه لا يتعلق بمجرى الحرب وإنما بتفصيل صغير حين تولت إدارة ترامب التفاوض على إطلاق سراح أميركي من عند حماس دون التنسيق مع حكومة نتنياهو، كما أن إفراد أميركي بالتفاوض أظهر أميركا كما لو أنها لا تضع مصلحة إسرائيل في مرتبة أولى.
علام تراهن حماس إذاً؟ ربما استمالة الرأي العام الدولي وإحداث شرخ حول إسرائيل، وهو ما يحصل حاليا، لكن ثمنه باهظ جدا بالنسبة إلى الفلسطينيين، خاصة أن إسرائيل لا تقيم وزنا للضغوط الخارجية، ويمكن ملاحظة ذلك من الاتهامات المباشرة التي وجهها الإسرائيليون لدول أوروبية بينها فرنسا بتعميق معاداة السامية، واتهام رؤساء هذه الدول بذلك دون ذكر أسمائهم.
سيكون من المهم أن تسرع حماس باستغلال فرص التفاوض للتوصل إلى حل عاجل لإنقاذ أرواح الناس حتى لو كان ذلك على حساب مصلحة الحركة وصورتها الخارجية، فهل تكون مبادرة المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف هي المدخل للإنقاذ؟