مصر في قلب الخليج.. لكن عناصر التأثير تتغير

ينشط حديث عن برود في العلاقات بين السعودية ومصر التي باتت تشعر بأنها لم تعد في قلب اهتمام الخليجيين كما كانت لعقود. ويقول نشطاء مصريون إن السعودية هي من تحرك فكرة تدوير منصب الأمين العام للجامعة العربية واستغلال نهاية ولاية أحمد أبوالغيط للدفع نحو اختيار أمين عام غير مصري.
إن كانت السعودية تدفع نحو تدوير منصب أمين عام الجامعة العربية فهذا من حقها، ومن قبلها عمل آخرون على دعم فكرة تدوير منصب الأمين العام، وهو أمر منطقي ولا ضرر منه، وعلى العكس بقاء منصب إقليمي في يد بلد واحد باستمرار هو عين الخطأ لأنه يحوّله إلى تابع لسياسياته وحساباته ويقتله، وهذا أمر واضح، ويفسّر إلى حد ما أزمة الجامعة العربية.
ولا يمكن أن يستدل على إثارة موضوع التدوير بأنه استهداف لدور مصر أو تقليل منه، إلا إذا كان هجوما استباقيا لمنع تجسيد فكرة التدوير والحفاظ على الوضع كما كان.
لكن المشكلة في الانزعاج المصري لا تكمن هنا. فالمصريون يشعرون بأن بلادهم لم تعد مركزا إقليميا كما كانت من قبل، ودول الإقليم باتت تتصرف وتتحرك في ملفات كثيرة دون حاجة إلى القاهرة كما كانت تفعل في السابق. والدول الكبرى كانت إلى وقت قريب ترى أن لا شيء يمر دون موافقة مصر بما في ذلك مسار السلام مع إسرائيل. والأمر اختلف الآن، ودور مصر بات ثانويا في الحراك الدولي الذي يعنى بأمر الإقليم.
◄ مصر تحتاج إلى تجاوز حساسية العلاقة مع الخليج، لكونه خيارا لكل دولة على حدة، ولكن أيضا في المطالبة بأن تكون في قلب سياسات الخليج الإقليمية
وكان آخر ما أثّر في المصريين أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب زار ثلاث دول خليجية ولم يزر القاهرة، ولم يدع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى الرياض للقاء ترامب في حين دعي الرئيس السوري أحمد الشرع ليلتقي بالرئيس الأميركي، وقيل إن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان هو من أقنع ترامب بلقاء الشرع، وكان يمكن من باب المجاملة والأخذ بالخاطر استدعاء السيسي ورفع الحرج عن تأخير زيارته المعلقة إلى واشنطن.
ترامب آثر الخليجيين بالزيارة لأنه ذهب إلى هناك لعقد صفقات كبرى اقتصادية وعسكرية، كما أنه يراهن على دور الدول الخليجية للمساعدة في الوصول إلى اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي أو دورها الإقليمي، وهذا ما أشارت إليه “فايننشال تايمز” قبل أيام. وآثر الشرع باللقاء ليضعه على سكة التهدئة مع إسرائيل، ولا يجد داعيا للقاء السيسي في الرياض أو في القاهرة.
زيارة الرئيس الأميركي إلى مصر كانت ستكون مهمة لو أن القاهرة نجحت في إنهاء الوساطة بين حماس وإسرائيل لتأتي الزيارة تتويجا لمسار المبادرة المصرية بشأن غزة. لكن هذا لم يحصل لأمر ما بعضه يتعلق بالحذر المصري، والبعض الآخر برعونة إسرائيل وحماس ورهان ترامب على الوقت لاستواء الحل بأسلوب التاجر الذي يجبر البائع على أن يأتي بنفسه ويطلب الصفقة، أو هكذا يخيل إليه بأن حماس ستقبل في الأخير بما يعرضه مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف.
هل يمكن أن ينزعج المصريون من أن الأمير محمد بن سلمان لم يطلب أو يلح على حضور السيسي للقاء ترامب مثلما ألح على استقدام الشرع؟ لا أعتقد أن الأمر يستدعي انزعاجا ولا “زعلا” في القاهرة، فمصر نفسها حين كانت في قلب الأحداث لم يحتجّ أحد أنها لم تشرك الخليجيين في الأضواء التي كانت تخطفها بزيارات ولقاءات متعددة. فلكل دولة توقيت للقوة والتأثير وتوقيت آخر للتراجع.
◄ زيارة السيسي لأبوظبي واستقباله من رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أظهرت أن مصر ما تزال في قلب الخليج
مع العلم أن مصر في السنوات الثلاث الأخيرة، أي منذ حرب أكتوبر 2023، قد سلكت طريقا إقليميا خاصة بها، وحتى قبل ذلك، ففي الصراع الحالي مع الحوثيين، ورغم أنها متضررة بشكل مباشر من استهداف السفن التي تعبر قناة السويس قادمة من البحر الأحمر، اختارت التهدئة ورفضت أن تكون واجهة في الحرب الأميركية – الإسرائيلية مع الجماعة الحليفة لإيران.
ونصف الموقف هذا له ثمنه أميركيا وإسرائيليا، خاصة بعد التقارب مع إيران وتوجيه رسائل إلى واشنطن وتل أبيب بأن القاهرة لديها بدائل ولا تقبل بالتهميش.
يضاف إلى ذلك سعي القاهرة لإظهار تمايزها عن موقف تل أبيب وواشنطن في ما يخص التهجير، وهذا له ثمنه أيضا.
في حرب اليمن 2015 وما بعدها، في الظاهر كانت مصر مع الخليج، لكنها في الميدان كانت أكثر حذرا، ورفضت التورط في الحرب بشكل مباشر. ولم يلمها أحد، لكن هذا الموقف سيحسب ضمن التراكم في العلاقة مع السعودية.
هناك مؤاخذة مصرية صامتة بشأن تراجع الدعم الخليجي، وخاصة من السعودية التي ضخت هي والإمارات بسخاء لإنجاح مسار السيسي في إسقاط حكم الإخوان في 2013 وتثبيت حكمه، حيث قامتا بضخ المليارات بهدف تنشيط الاقتصاد وتعافيه.
◄ لا يمكن أن يستدل على إثارة موضوع التدوير بأنه استهداف لدور مصر أو تقليل منه، إلا إذا كان هجوما استباقيا لمنع تجسيد فكرة التدوير والحفاظ على الوضع كما كان.
الخليجيون وقفوا في أغلبهم مع مصر في وجه الربيع العربي. لم يكن مهما بالنسبة إليهم من يحكم، كان قطع الطريق على الفوضى التي تهز دولة مركزية في الشرق الأوسط هو المهم، خاصة بعد تخريب ثورات ليبيا وسوريا واليمن وتحويل “ثورة ياسمين” تونس إلى لعبة سياسية، وأن استهداف مصر يعني المس باستقرار الإقليم.
لكن المال الخليجي له سقوف، والخليجيون يعتقدون أن الاستثمار في المشاريع أفضل طريقة لدعم مصر، والأمر متروك للحكومة المصرية لضبط كيفية التعاطي مع هذه الرغبة، هل أنها ستفتح الباب أمام الاستثمار في الشركات والمؤسسات الكبرى أم تفضل أن تتركه تحت يد الجيش ضمن مقاربة تحتفظ للدولة بالمؤسسات الحيوية وتسمح بخصخصة محسوبة بدقة، وتفويت تدريجي.
لقد أظهرت زيارة السيسي لأبوظبي واستقباله من رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أن مصر ما تزال في قلب الخليج. هناك علاقة خاصة للخليجيين بمصر، وهناك امتنان لدورها في السابق، لكن دون استغراق في الماضي، ومثلما أن لمصر أفضالا فللخليج أفضال، والعلاقة أخذ وعطاء.
تحتاج مصر إلى تجاوز حساسية العلاقة مع الخليج ليس فقط في ما يتعلق بضخ الدعم والمساعدة، لكونه خيارا لكل دولة على حدة، ولكن أيضا في المطالبة بأن تكون في قلب سياسات الخليج الإقليمية، أي أن يقف الخليجيون في صفها في القضايا التي تمسّ مصالحها مثلما هو الأمر في موضوع سد النهضة مع أثيوبيا، والتذمر من أنهم لا يرفعون الصوت عاليا بإدانة أديس أبابا في وقت تسلك هي نفسها طريقا في السودان أو الصومال يتعارض مع سياسات وأجندات خليجية.
وبالنتيجة، من المهم الاقتناع بحرية التحرك خارجيا كل حسب مصالحه، فإن التقت فيا حبذا وإن اختلفت فأمر منطقي وهو الأصل في السياسات الخارجية.