هل البشرية قابلة للإصلاح

هل هناك أي أمل في وأد العفن الفكري المنتشر اليوم في العالم والمجتمعات؟
يبدو أن انتشار الوعي والتطور الفكري يحدث بشكل بطيء وعشوائي ولا يمكن التحكم به حقيقة، خاصة في ظل عالم كبير منفتح على بعضه دون حدود قيم ثقافية، دُفع ليصبح “قرية صغيرة” متصلة ببعضها لكن ليس للأسباب الصحيحة.. بمعنى الغاية مادية اقتصادية، وبالتالي فإن تغير شكل النظام العالمي، والاتصال والتواصل بين المجتمعات، والثورة التطورية التي حدثت، لا تصب في مصلحة تطور وعي وشخصية الفرد أو حتى حقوقه وحياته اليومية.. ولا تتماهى مع التطور الفكري والقيمي والثقافي للمجتمعات، بل تصب في مصلحة النخبة والشركات، أي لصالح الأقلية.
الوعي إن أردنا تعريفه، يكمن في قدرة الأفراد على هدم الموروثات الفكرية والثقافية المتوارثة والمتواجدة وتنقيحها وتطويرها وفي القدرة على دراستها بشكل يسمح ببناء قيم فكرية ثقافية جديدة تخدم الإنسان وتوازنه الروحي والمادي بشكل أفضل.
وهذا لا يحدث حقيقة في العصر الحديث، بل أغلب المجتمعات ترفض ذلك بشكل متطرف. وهناك عدم توازن بين التطور التكنولوجي المادي الشكلي وبين وعي ولاوعي الأفراد في المجتمعات. بل يمكن رصد اختلال في موازين الأفكار والقيم والمبادئ، وقد تصل بشكل مشوه للناس أو يتم التلاعب بها.
◄ نحتاج إلى فتح حوار طويل كبير بين مجتمعات العالم وحوار فكري ديني فلسفي قيمي يعمل على تصغير الفجوات بينها ويحد من الصراع الحضاري العنيف ويقلل من التطرف الديني
فمثلا، أصبحت الخرافات والأساطير ترتدي ثوب العلم والحكمة يتم اعتمادها كمسلمات وحقائق واضحة، لتشوّه برمجة عقل الأفراد وتزيد من جهل المجتمعات وغرقها في الظلمات وتسطيح عقل الإنسان.
من سيحارب الجهل والسطحية والتشوه الفكري اليوم، خاصة في ظل دول متداعية أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومناطق كاملة تجتاحها الحروب والصراعات ومآسيَ إنسانية عميقة؟
يبدو لا أحد حقيقة. أو ربما قلة تتمّ محاربتها بشكل متطرف.. هذا العالم بات عشوائيا غوغائيا بلا رقيب أو حسيب، لا يهاب أي شيء أبدا. يستثمر في الجهل والظلمات الفكرية والتطرف لتدمير المجتمعات البشرية بشكل أفضل.
لا كوارث طبيعية ولا أساطير أو إيمانيات أو حروب قادرة اليوم على ردع أو تهذيب أو ترتيب حال المجتمعات. ضاعت البوصلة، وكل ما في الأمر أن الإنسان يعتاد الجحيم بظلامه ونزيفه وجهله وتشوهه وتستمر حياته بشكل طبيعي وسط الركام.
تم الاستثمار في صناعة التفاهة بشكل مربح وناجح، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام. وما زال يتم الاستثمار في أبخس العقول وأقل الناس جدارة. قلة من تحاول نشر النور محاورة العقول بروية وحكمة.
هذا العالم يعرف تماما كيف يجعل من الأغبياء مشاهير، ويعطي “المايكروفون” للأكثر انزعاجا وأعلى صوتا وليس للأرقى فكرا. عالم يبدو أنه يرفض الحوار والنقاش سياسيا واجتماعيا وثقافيا وقانونيا وفكريا وفلسفيا بشكل قاطع، ويتبع دون وعي صوت كل من يبيع وهما أو تشتيتا أو يغذي أفكارا ظلامية متطرفة. والنتيجة مجتمعات محطمة.
العقول تصدأ إن طال عدم استخدامها. واليوم هناك فئة لا بأس بها لا تريد استخدام عقلها أو مراجعة مبادئها.. ترفض التغيير والتجديد بشكل عنيف وقاس، ترفض الغوص في عمق بحار الفكر والفلسفة والأديان وتفضل اللهو في البرك الضحلة من التطرف والسطحية والمجادلات غير الهادفة والحوار البيزنطي غير المجدي ومستعدة لمصادقة الشيطان من أجل مصلحتها.
لكن، عاجلا أم آجلا، ستحتاج المجتمعات البشرية بشكل جدي لمراجعة شاملة كاملة للوصايا والقيم والأفكار والدساتير والمعتقدات بما يلائم التطور المادي والعلمي وما يساعد في إحلال واقع أفضل للإنسان في كل مكان.
◄ من سيحارب الجهل والسطحية والتشوه الفكري اليوم، خاصة في ظل دول متداعية أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومناطق كاملة تجتاحها الحروب والصراعات
الجميع يستحق تجربة بشرية تحترم كيانه وروحه ووجوده.
الجميع يستحق أن يُقاد بحكمة إلى طريق النور من أجل واقع أفضل.
وهذا يقودنا إلى سؤال: أين ذهبت النخبة؟ وفي أيّ عالم يقطن المثقف؟
بداية، معيار النخبة غالبا تغير، فاليوم المعايير مادية سطحية ولم يعد المضمون الفكري والثقافي هو الفيصل. وأعتقد للأسف أن أصحاب العلم والفكر والثقافة وأصحاب الحكمة والرزانة، تهمشوا. والبعض منهم بدورهم يهمشون ذواتهم. ربما يترفعون عن عالم يرفضهم ولا يمكنهم الانسجام معه.. لكنهم يعطلون بذلك أهم دور لهم في قيادة المجتمع وإصلاحه نحو الحكمة والانفتاح الفكرييْن والقيم الإنسانية المتوازنة.
النخبة تم صلبها للأسف. ولطالما كان يتم إعدامها واتهامها بالجنون والغرابة. تحولت إلى طيف فقد صوته، بالكاد قادرة على الاعتراض وتسجيل موقف لها، يتم استبعادها من أي دور قيادة ورجمها، ويتم تهميشها إعلاميا لأسباب عدة أهمها أن “المشاهدات” باتت أهم من تنوير المجتمعات. لكن في عالم بات صوت الظلام والشيطان به أقوى، عليها المحاربة بشكل أقوى..
أين المفر؟
بداية دعنا نتفق أننا لا نريد عالما طوباويا. نحتاج فقط إلى التخفيف من آثار المهزلة العالمية، وإعطاء مساحة للتنوير تماما كما يتم إعطاء كل الفرص للظلمات والتسطيح الفكري. نحتاج إلى القليل من الهواء النظيف الممزوج بعبق الثقافة والتنوع الفكري والتسامح واللطف. نحتاج عالما أقل قسوة وغوغائية وهمجية.
وهذا لا يتم إلا بإعادة برمجة المجتمعات والأفراد بالعلم وبالإنسانية وبالانفتاح الفكري.
نحتاج اليوم إلى عودة حمورابي وإلى وصايا شورباك.. أو إلى قيامة المسيح لوضع حد للمأساة البشرية حتى لا نستمر بخلق جحيم أبديّ لأنفسنا.
◄ يبدو أن انتشار الوعي والتطور الفكري يحدث بشكل بطيء وعشوائي ولا يمكن التحكم به حقيقة، خاصة في ظل عالم كبير منفتح على بعضه دون حدود قيم ثقافية، دُفع ليصبح “قرية صغيرة” متصلة ببعضها
نحتاج إلى أمثال جون لوك وجان جاك روسو وديكارت. نحتاج إلى إحياء عصر العقل من جديد وإلى ثورة فكرية فلسفية عالمية.
نحتاج إلى عصف ذهني بشري جماعي كبير، إلى حركة ترجمة أفضل، إلى مراجعة دقيقة فلسفية فكرية روحانية دينية لكل الموروثات الفكرية التي يحملها الأفراد على أكتافهم دون وعي حقيقي منهم بحقيقتها وصلاحها.
على المجتمعات إعطاء دفة القيادة للمفكرين والروحانيين وأصحاب الفكر والفلسفة والثقافة.. أن نسمح لهم بالتجمع ربما في غرفة كبيرة، ونستمع لمحاججاتهم لعلنا نخرج بقوانين دولية سياسية اجتماعية اقتصادية ثقافية ومذاهب دينية روحانية أفضل قادرة على إنقاذ البشر من ضياعهم.
نحتاج إلى فتح حوار طويل كبير بين مجتمعات العالم وحوار فكري ديني فلسفي قيمي يعمل على تصغير الفجوات بينها ويحد من الصراع الحضاري العنيف ويقلل من التطرف الديني الوطني الإثني الجائح.
البشر في حاجة إلى ثورة على الأصنام وهدمها لإعادة تعديل الموازيين. أو ربما.. حالتنا ميؤوس منها، فنحتاج إلى طوفان جديد ينتقي الأفضل والأصلح في هذا العالم فقط. أولم تهلك الحضارات السابقة حين كانت تحيد عن الطريق القويم؟ هلكت.. فلماذا لا نهلك نحن أيضا؟
لذا من الضروري البدء بصنع عالم جديد بعيدا عن العطب العقلي والتلوث الفكري الذي شوه حياة الإنسان وهدمها.