أي مستقبل لشعوب الشرق الأوسط

نحن أمام مشاريع مخيفة يجري تنفيذها في ظل صمت دولي يُوهم بالموافقة وأمام عملية تفتيت للكيانات واستقلالية الدول وسلب لحقوق الأفراد وإنسانيتهم وكأنهم على هامش التاريخ.
الخميس 2025/06/05
التاريخ الذي لا يُوثق يتحول إلى أسطورة

منطقة الشرق الأوسط تمر منذ سنوات، وتحديدًا خلال العامين الماضيين، بمرحلة من أكثر محطاتها التاريخية تعقيدا. حتى اليوم لم يظهر أيّ مشروع وطني قومي أو إنساني واضح، لا توجد بنية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية لمقاومة المشاريع التي تُنفذ على أراضيها، ولا حتى تصور إداري طويل الأمد.

وفي ظل دولٍ بالكاد تحافظ على وجودها، ومجتمعاتٍ أنهكتها الحروب والتحالفات العابرة للمصالح، يُكتب التاريخ دونهم، وأحيانًا يُكتب ضدهم.

ومن هنا تظهر التساؤلات حول ما سنتركه خلفنا، وكيف سيتعامل المستقبل معنا؟ وهنا أتحدث عن الشرق الأوسط.. أيّ ذاكرة ستخلدنا؟ هل ستذكرنا الأجيال كأممٍ انهارت واختفت لأسباب مجهولة؟ أم كأممٍ ذابت عبر التاريخ داخل هياكل إدارية واجتماعية وسياسية، وربما ثقافية وفكرية جديدة دون أيّ مقاومة؟ أم ستذكرنا كأرواحٍ قاومت جحيمًا خلقته الدول العظمى الاستعمارية على أرضها عبر السنوات؟

التاريخ الذي لا يُوثق ولا يُؤرشف قد يتحول إلى أسطورة، أو يُختصر في ملحمة شفهية تتناقلها الأجيال بمبالغة أو تحريف. وما لا يُدوَّن، يتحوّل إلى مادة خام يستهلكها المنتصرون، تمامًا كما حدث للأمم والمجتمعات البشرية عبر العصور. وقد يُعامل الشرق الأوسط مستقبلاً كما نعامل نحن بعض الحضارات القديمة اليوم؛ باعتبارها غامضة، مشوشة، بدائية، متخاذلة، غير قادرة على تأسيس نظم حقيقية. لكن هذه النظرة تبدو رواية مختزلة وخطيرة ومشوهة.

في ظل منطقة لا حول لها ولا قوة في رسم واقعها، فإن إحدى أهم الأدوات التي لا يجب إغفالها هي أن يُوثق أهالي المنطقة ما يحدث لهم، لا فقط في ذاكرة رقمية، بل في سجل أرشيفي يحمي حقوق أجيالهم القادمة

نحن لا نعيش على هامش التاريخ، بل في مركز الزلزال. إن لم نوثق تجاربنا وواقعنا بصوتنا نحن، لن يكون مستغربًا أن تتحول معاناتنا إلى سطر باهت في تقارير أو خرائط ما بعد الخراب.

التوثيق لا يقتصر على تصنيف “منتصر” أو “منهزم”، ولا يمكن الاكتفاء بذاكرة فردية مبنية على معاناة شخصية أو خبر عابر. كما لا يجب أن يكون عشوائيًا، ولا يُختزل في ذاكرة رقمية لا نملك مفاتيحها، بل يجب أن يكون ممنهجًا، مكتوبًا، ومحفوظًا.

لطالما شُكك في شرعية شعوب هذه الأرض، لمجرد أن نظمها لم تتطابق مع نموذج الدولة القومية الأوروبية. مقولة “أرض بلا شعب” لا تزال تتكرر، بنسخٍ محدثة، على ألسنة شخصيات مثل صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أنكر بجهلٍ وسطحية سياسية واضحة وجود شعوب حقيقية في المنطقة، واعتبرها مجرد كيانات بدائية بلا جذور.

هذا التصور ليس جديدًا، فقد سبق لغولدا مائير أن عبّرت عن فكرة مشابهة عندما تساءلت بسخرية: “من هم الفلسطينيون؟” لكن هذا الخطاب يكشف أكثر ممّا يُخفي؛ فهو يؤشر إلى مدى أهمية السردية، وليس الأرض فقط.

إن المنطقة، بسبب الاحتلالات المتكررة وبسبب طبيعتها وتجربتها المختلفة، كانت تركيبتها الاجتماعية والإدارية والسياسية ومفهوم الدولة مختلفًا تمامًا عمّا أنتجته التجربة الأوروبية. فالمنطقة، من فلسطين إلى سوريا ولبنان إلى العراق، لم تكن يومًا بلا نظام أو مجتمع، ولم تكن تحكمها الفوضى، بل كانت تملك نموذجًا مختلفًا من التنظيم والإدارة. ومن هنا يأتي الخلل في التقييم الغربي، ومن هنا تكمن أهمية الرواية المحلية، وأهمية سرد الأحداث والرؤى وتوثيق الأفكار وتجسيد البصيرة في كلمات خالدة، خاصة في هذا الوقت الذي انهارت فيه هيكلية القيم والأخلاقيات، وأصبح تشويه الحق أمرًا يسيرًا، وجعل الأكذوبة ترتدي ثوب النبوة أمرًا مقبولًا.

هذا ما حدث قبل قرون مضت، وهكذا يعيد التاريخ نفسه الآن. علينا أن ندرك أن أسلافنا لم يكونوا أقل شأنًا أو قيمة منا، وربما لم يكونوا أقل مقاومة أيضًا، لكن ربما غفلوا عن توثيق تجربتهم الشخصية والاحتفاء بها. ولذلك هناك مصير مشترك بيننا وبين شعوب الماضي، وهو أن الأجيال القادمة قد تفسر الآثار والوثائق والتأريخ والأحداث بطريقة خاطئة، أو تستند إلى مفاهيم غير دقيقة حول هويتنا وواقعنا وسياساتنا وصراعاتنا ومآسينا.

وهكذا تمامًا تُبدد الحقوق، والتاريخ قد يعيد نفسه، والناس في المستقبل قد يظنون أننا مجرد أساطير أو أكذوبة. وإذا استمر احتكار المعرفة وسرد الروايات والأحداث، فقد يتم تحريفها، ونصبح مجهولي الهوية والمصير.

وفي ظل هذا الجحيم المتعاظم، والتقسيم الذي يجري تنفيذه على مرأى من العالم في المنطقة كاملة، واستباحة حدود الدول، وإعادة تعريف هُوية المنطقة ومكوناتها، ومحاولة تذويب ودمج وتشويه الكثير من المناطق وأهاليها وثقافتهم وتاريخهم، فإن القادم سيكون أكثر خطورة.

نحن لا نعيش على هامش التاريخ، بل في مركز الزلزال. إن لم نوثق تجاربنا وواقعنا بصوتنا نحن، لن يكون مستغربًا أن تتحول معاناتنا إلى سطر باهت في تقارير أو خرائط ما بعد الخراب

نحن نشاهد المشروع قيد التنفيذ، بتهجير أهالي غزة، وربما، على أنقاض نكباتهم ومقابرهم الجماعية، سيتم لاحقًا بناء ما يمحي عبر التاريخ مأساتهم ويُخفيها.

وفي أماكن أخرى، كسوريا، المهددة بإعادة تقسيمها وتقسيم مكوناتها على أسس طائفية ودينية وإثنية، ضمن مشروع ماكر يجعل من البلاد مسرحًا للصراع والمعارك لعقود مقبلة وربما أكثر. ومن هنا، ربما ستُعاد تسمية الأراضي والبلدان قريبًا بمسميات مختلفة. فلا شيء مستغربا، ولا شيء مستحيلا.

نحن أمام مشاريع مخيفة يجري تنفيذها في ظل صمت دولي يُوهم بالموافقة، وأمام عملية تفتيت وسلب للكيانات واستقلالية الدول والمنطقة، وسلب لحقوق الأفراد وإنسانيتهم وكأنهم على هامش التاريخ، دون أيّ مشاركة حقيقية منهم في تقرير مصيرهم وكتابة حاضرهم ومستقبلهم.

هذا لا يؤثر فقط على واقعهم الحالي الذي بات جحيميًا، بل سيمتد تأثيره إلى المستقبل، حيث سيصبح الاستثمار في خراب المنطقة أكثر سهولة ويسرًا.

وفي ظل هذه النكسات، يجب على أهالي المنطقة إعادة تعريف ذواتهم وكياناتهم وحقوقهم، والأهم بناء مشاريع قومية وطنية إنسانية مضادة لروايات ومشاريع الاستعمار والاحتلال.

وإلا، فإن العقود القادمة ستكون مرعبة، وستكون المنطقة خارج سيطرة سكانها. فما بُني على باطل سابقًا لن يجرّ إلا المزيد من الباطل لاحقًا. ستضيع الحقوق والهويات والتاريخ والإرث الفكري والثقافي والحقوقي للمنطقة، وسيتغير مجرى التاريخ بما ستكون عواقبه وخيمة على الشرق الأوسط.

بعد قرن من الآن، لن يذكرنا التاريخ بحقيقتنا وعدالتنا وحقوقنا، بل سنكون مجرد ذكرى مشوهة.

ومن هنا نعود إلى بداية طرحنا: في ظل منطقة لا حول لها ولا قوة في رسم واقعها، فإن إحدى أهم الأدوات التي لا يجب إغفالها هي أن يُوثق أهالي المنطقة ما يحدث لهم، لا فقط في ذاكرة رقمية، بل في سجل أرشيفي يحمي حقوق أجيالهم القادمة، قبل أن تُكتب نهايتهم بأقلام لا تعرفهم وتتعمد تشويه عدالتهم وحقوقهم.

7