الشرق الأوسط.. حين تتحقق النبوءة

هؤلاء الذين يحرّكون خرائط العالم من خلف الستار لا يكترثون إلا لتوسيع سطوة إمبراطورياتهم، وجل ما ينشدونه إبقاء من هم في الأسفل عبيدا يتم استغلالهم اقتصاديا وسياسيا ودينيا وروحانيا.
الخميس 2025/05/22
البقاء على قيد الحياة ضربة حظ لا أكثر

الرئيس الأميركي دونالد ترامب قال ذات مرة في مقابلة له إن “نهاية العالم ستبدأ من الشرق الأوسط،” ويبدو التصريح غريبا إذا لم نفهم الخلفية التي تدفع الكثير من صناع القرار في الغرب، خصوصا في الولايات المتحدة، لرؤية المنطقة بهذه العدسة.

ترامب، وإن لم يكن معروفا بتديّنه الشخصي، إلا أنه يمثل شريحة واسعة من الإنجيليين المسيحيين الذين يؤمنون بأن المسيح سيعود من القدس، وأن حرب “هرمغدون” الكبرى ستبدأ منها، وأنه لا بد من سيطرة إسرائيل الكاملة على ما يُسمى بـ”الأرض المقدسة”  لتهيئة الطريق للنهاية.

كما أن فريقه يضيف بُعدا دينيا أيضا على مهامه..

نستحضر ترامب وفريقه كمثال، فالكثير ممّن يحكمون العالم اليوم يؤمنون بنبوءات ويتصرفون على أساسها، حتى لو ألبسوها لباسا سياسيا أو إستراتيجيا. ووراء كل قرار يبدو عقلانيا، كثيرا ما تكمن أساطير عتيقة قديمة.

◄ السردية الكبرى التي بدأت من الشرق، لا بد أن تعود إليه لتكتمل، وكأن البشرية تكتب نصا حلزونيا يعود إلى مبتدئه كي يغلّق دورته

أعادونا إلى حيث التاريخ القديم، ينادون بالنهاية، ويجمعون على أن بدايتها ستكون في الشرق الأوسط. فتارة يبدأ الطوفان، وتارة يُطلقون اسم “حرب القيامة” على فتح سبع جبهات جهنمية في المنطقة.

قُدّم الملايين من سكان المنطقة قرابين، ضاربين بعرض الحائط كل قيمة إنسانية، أو عدالة أو حقوق أو حكمة أو عقلانية. فتفاقمت معاناة الإنسان، وعاد إلى زمنٍ البقاء فيه على قيد الحياة يعتمد على ضربة حظ لا أكثر.

هُدّمت البلاد، ببُناها التحتية والثقافية والفكرية والأخلاقية، حتى غاب الحاضر وتلاشت ملامح المستقبل. لكن السؤال الأهم ليس ما يؤمنون به. بل، نحن شعوب الشرق بماذا نؤمن؟

هل نظل مجرد مسرح يتصارع عليه الآخرون لإتمام نبوءاتهم؟ أم نحطم النص ونخلق سرديتنا؟

ألم يحن الوقت أن نعيد خلق أساطير جديدة لنا؟ أن نروي قصتنا بما يليق بإنسانيتنا؟ وما قيمة النبوءات أمام ضياع حقوق الإنسان؟

أهذه هي السنوات العجاف؟ نعم، يبدو ذلك.. لكن، ليست فقط في الخبز أو المياه أو المال، بل في الإنسانية، في الأخلاق وفي الأمان، في الصدق، في الحب، في الكرامة وفي المعنى.

وكأننا نعيش “مجاعة أخلاقية” لا تكفي فيها الحبوب بل تحتاج إلى وعي جديد وبرمجة بشرية محدثة.. برمجة نورانية لا شيطانية مدمرة.

الشرق الأوسط ليس مجرد خريطة. بل جرح، وذاكرة ومعبد، ومقبرة، وكلما حاولوا الهرب منه، عادوا ليكتبوا نهايتهم فيه.

◄ الذين يحرّكون خرائط العالم من خلف الستار، لا يُحرّكهم سوى الجشع والسلطة، ولا يكترثون إلا لتوسيع سطوة الإمبراطوريات، وجل ما ينشدونه إبقاء الأفراد، من هم في الأسفل، عبيدا يتم استغلالهم

الشرق الأوسط كان البداية.. العقل الباطن للحضارة العالمية، “نقطة في لاوعي العالم،” ولذلك ربما يُهيأ للعالم أنّ في رحم البداية تكمن النهاية.

الشرق الأوسط ليس فقط لأنه جغرافيا يقع في مركز العالم، ولا لأنه يمتلك أجمل المناظر وأندر المعادن.. بل لأنه ميتافيزيقيا، وقيميا، وثقافيا، وتاريخيا، كان دائما بمثابة “رحم الحضارة”، و”المنصة التي وقفت عليها البشرية لتحكي قصتها الأولى.”

من هنا خرجت أولى المدن، من أوروك وأور وبابل ونينوى وأريحا.. نُحتت بدايات الحضارة، وانبثق الإنسان كخالقٍ للمعنى، والمدينة كأول انعكاس للعقل الجماعي.

ولست أقول ذلك من منطلق تحيّز، بل استنادا إلى ما يقوله التاريخ والآثار.

هذه المدن الأولى لم تكن مجرد تجمعات بشر، بل كانت المرايا الأولى للعقل، حيث بُنيت الأسوار لا لحماية الجسد فقط، بل لصيانة الروح من التيه.

ومن هنا خرجت الزراعة والكتابة والقوانين الأولى، وأسست هياكل الدول والإدارات. ومن هنا طرحت أولى الأسئلة عن الخلق والموت، عن معنى الوجود، عن الحياة والآلهة. ومن هنا، لاحقا، جاءت الديانات الإبراهيمية الثلاث، التي أعادت تشكيل العقل الجمعي للبشرية.

إذا، بدأت القصة من قصاصات بسيطة بجغرافيا محدودة، واليوم تجد صداها في غرب هذا العالم. من طوفان نوح الذي بدأ في أساطير بابل وآشور. وفق علماء الآثار والتاريخ، قصة الطوفان تُحاكي أسطورة “أتراحسيس” و”جلجامش” في الألواح السومرية والأكادية، حيث يظهر رجل صالح يُنقَذ من الطوفان ببناء سفينة كبيرة. في منطقة شروباك، وهي مدينة سومرية تقع على ضفاف الفرات، جنوب العراق الحالي، ما يعمّق جذور القصة في الطين البابلي. ثم نجد قصة موسى أيضا لها جذور بابلية وسومرية.

◄ الكثير ممّن يحكمون العالم اليوم يؤمنون بنبوءات ويتصرفون على أساسها، حتى لو ألبسوها لباسا سياسيا أو إستراتيجيا. ووراء كل قرار يبدو عقلانيا، كثيرا ما تكمن أساطير عتيقة قديمة

الباحثون يشيرون إلى أن سيرة “سرغون الأكادي” – مؤسس الإمبراطورية الأكادية – تتقاطع بشكل لافت مع سيرة موسى. سرجون، وفق الأسطورة، وُلد سرا ووُضع في سلّة على نهر الفرات، ثم تبنّته عائلة ملكية، تماما كما تُروى قصة موسى في التوراة. هذا التشابه يُثير أسئلة كبيرة عن إعادة تدوير السرديات، وعن كيف تتسلل الأساطير القديمة إلى الأديان اللاحقة، وكيف اتخذت أبعادا جديدة في كل حضارة تمرّ بها.

حتى قصة الخلق الأولى، قصة آدم وحواء، لم تبدأ من العدم. في أسطورة “إنكي ونينهور ساج” السومرية، تظهر امرأة خُلقت من ضلع، في سردية تسبق قصة حواء وتتشابه معها بشكل مدهش. أما شجرة المعرفة، فتتكرر رمزيتها في “جلجامش” عبر نبتة الخلود.

الرموز الكبرى – الطين، الضلع، الشجرة، الطوفان – كلّها خرجت من تربة بلاد ما بين النهرين، قبل أن تتجسد لاحقا في الوعي البشري.

لذا، ليس غريبا أن تكون “نهاية العالم”، بحسب نبوءات كثيرة، مقرونة بهذه الأرض.

فالسردية الكبرى التي بدأت من الشرق، لا بد أن تعود إليه لتكتمل، وكأن البشرية تكتب نصا حلزونيا يعود إلى مبتدئه كي يغلّق دورته.

إن هؤلاء الذين يحرّكون خرائط العالم من خلف الستار، لا يُحرّكهم سوى الجشع والسلطة، ولا يكترثون إلا لتوسيع سطوة الإمبراطوريات، وجل ما ينشدونه إبقاء الأفراد، من هم في الأسفل، عبيدا يتم استغلالهم اقتصاديا وسياسيا وروحانيا، لتحقيق أهداف أولئك الذين يرون ذواتهم في الأعلى.

لتحقيق أهدافهم يسحقون الإنسان تحت عجلة السلطة والمال والغطرسة، ويُلبسون جشعهم ثوب النبوءة والأساطير. يصنعون الجحيم ويطلبون منّا أن نُؤمن أنه مقدّس.

9