النظام العالمي الجديد: تحكمه المصالح وتغيب عنه الشعوب

النظام العالمي الذي نواجهه لا يؤمن بالقيم ولا الأخلاق ولا الإنسان. يُدار من خلف الستار ويُعيد ابتكار أدواته بوتيرة أسرع من قدرة الشعوب على الفهم أو المقاومة.
الأربعاء 2025/05/14
من يربح من الفوضى

لا توجد “دولة عميقة” واحدة تحكم هذا العالم، بل نحن أمام شبكة متداخلة من التكتلات والمصالح العابرة للجغرافيا والسيادة. عالم تُديره منظومة معقدة، أعيد تشكيلها بهدوء ومكر على مدى قرن من الزمن، وفق إستراتيجيات تجاوزت وعي الشعوب، بل حتى وعي النخب أحيانا. تلك الدول التي لا تتصدر المشهد الإعلامي يوميّا، والتي قد تبدو للبعض خارج لعبة النفوذ أو مجرد أطلال تاريخية، ما زالت في الكثير من الأحيان حلبات حقيقية تُصاغ فيها قرارات كبرى، وتُعاد فيها هندسة النفوذ العالمي.

ما نعيشه اليوم من أزمات وصراعات ليس حالة طارئة، بل هو امتداد لإرث استعماري طويل الأمد، وهندسة سياسية مُحكمة بدأت منذ مطلع القرن العشرين. عام 2024 مثّل ذروة هذا المخاض؛ لم تكن غزة مجرد ساحة مواجهة عسكرية، بل نقطة انعطاف حاسمة في مشروع يهدف إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط. الاجتياح الإسرائيلي البري، الذي جرى بدعم صريح من الولايات المتحدة وصمت دولي مريب، لم يكن سوى فصل مكشوف من خطة أوسع تؤكد أن المنظومة الدولية التي ترفع شعارات العدالة وحقوق الإنسان ما هي إلا أداة ضمن منظومة سلطة أكبر. الأحداث ليست تأويلات، بل وقائع: قصف منهجي، تهجير جماعي، واستهداف متعمد للبنية التحتية، وكلها تشير إلى سياسة مدروسة تهدف إلى تفكيك الهوية وتغيير التركيبة المجتمعية وتحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة، تُدفع فيها الأجيال إلى الهجرة تحت وطأة اليأس وانعدام الأفق.

وامتد هذا المسار ليشمل الضفة الغربية ولبنان وسوريا واليمن، ما يشير إلى أن المخطط لم ينته بعد. قال بنيامين نتنياهو “لقد غيرنا وجه الشرق الأوسط،” وربما لم يُبالغ. غير أن هذا التغيير لا يعود إلى إسرائيل وحدها، بل هو نتاج منظومة دولية كاملة تُخطط وتُنفذ وتُضلل. المنظمات الدولية، من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، مرورا بكبرى وسائل الإعلام، باتت أدوات في هذه المنظومة، غير قادرة أو غير راغبة في تسمية الأشياء بأسمائها. حتى المؤسسات الإنسانية لم تكن بعيدة، بل بدت إمّا مُقيدة، أو مُوجهة، أو خائفة. محاكم دولية تُبنى من ورق، ومنظمات أُسّست بتمويل ممّن يحركون الحروب أنفسهم، فكيف لها أن تكون محايدة أو فاعلة؟

◄ هذه ليست عشوائية. إنها سياسة. إنها إدارة محكمة للضباب. شعوب تُغرق في تفاصيل يومية تافهة، بينما تُرسم خرائط العالم الجديد في غرف مغلقة، أو ربما على جزر لا نعرف عنها شيئا

وفي هذا السياق يُلاحظ التآكل التدريجي لدور مؤسسات المجتمع المدني والنقابات، التي من المفترض أن تشكل صوت الأفراد وتحمي مصالحهم في وجه السلطة. ففي الكثير من الدول تم تقييد هذه المؤسسات عبر التشريعات أو استنزافها عبر التمويل المشروط، أو احتواؤها ضمن منظومات شكلية بلا تأثير حقيقي. حتى النقابات في الديمقراطيات الغربية باتت تواجه قمعا ممنهجا عند محاولتها التصعيد، كما رأينا في فرنسا وألمانيا مؤخرا. هذا التراجع لم يكن نتيجة عجز تنظيمي فقط، بل هو جزء من سياسة إفراغ المجتمعات من أدوات الضغط، وعزل الأفراد داخل أنظمة محكمة الرقابة والتوجيه.

في الجبهة الأخرى، أوكرانيا، تستمر الحرب منذ 2022، مستنزفة موارد هائلة ومُغيّرة لخرائط التحالفات. لم تعد مجرد صراع جيوسياسي بين دولتين، بل باتت ساحة تجريب مفتوحة في سباق إعادة تعريف النظام العالمي. الناتو وروسيا والصين والولايات المتحدة جميعها تسعى لكتابة النسخة القادمة من موازين القوة. وهنا لا يمكن تجاهل الأثر الممتد لهذه الحرب على الأمن الغذائي وأسواق الطاقة والاقتصاد العالمي الذي بدأ يشهد انهيارات متتابعة، خاصة في الدول الهشة.

في هذا السياق المتداخل جاءت عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة بمثابة تصعيد جديد ضمن صراع داخلي على شكل المستقبل. شعاره القديم الجديد “فلنعِد أميركا قوية” لم يكن مجرد خطاب انتخابي، بل هو تعبير عن طموح لإعادة توزيع مراكز القرار داخل المنظومة العالمية نفسها. يحارب شبكات عالمية لا تروق له، ويصطدم بأهداف قوى عميقة مناهضة له، في محاولة لصياغة عالم جديد يرسم ملامحه هو ومن حوله. وهو إذ يفعل، يدفع النظام الدولي نحو فوضى منظمة، تمهد لتوازنات جديدة وفق مقاييس النخبة التي ينتمي إليها.

وفي ظل هذا التصاعد لم تعد التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أدوات محايدة، بل أصبحا أذرعا لفرض الرؤية وتوجيه الإدراك الجمعي. الخوارزميات وشركات البيانات الكبرى باتت تتحكم في ما نراه، ونفكر فيه، ونؤمن به. الفاصل بين الحقيقة والدعاية بات هشّا، بين الإعلام والتوجيه، بين المعرفة والتضليل. هذا الضباب الفكري لا ينشأ صدفة، بل يُدار ويُبرمج، ليُبقي الشعوب في حالة تشويش دائم.

حتى إسرائيل، التي تظهر كفاعل مباشر في قلب الصراع، ليست سوى رأس حربة متقدمة في نظام أعقد. تم تثبيتها بالنار، وتُدار وفق أجندات لا تتوقف عند تل أبيب، بل تمرّ عبر وول ستريت، واللوبيات، ومراكز النفوذ الغربية. وما يجري في منطقتنا من فتن مذهبية وصراعات دينية وحروب بالوكالة ليس معزولاً عن هذه الهندسة الأوسع التي تتجاوز الخرائط.

◄ المنظمات الدولية، من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، مرورا بكبرى وسائل الإعلام، باتت أدوات في هذه المنظومة، غير قادرة أو غير راغبة في تسمية الأشياء بأسمائها

نحن نعيش فوق ركام منظومة بدأت مع اتفاقيات القرن الماضي، وما تزال تُدار حتى اليوم من قبل شركات وعائلات ومراكز أبحاث وجماعات ضغط تتوارث مفاتيح النفوذ كما تُورّث الممالك. الرموز القديمة لم تختفِ، بل أعادت تقديم نفسها بأسماء جديدة ومشاريع تقنية لامعة، لكنها حافظت على بنيتها الميكيافيلية القائمة على السيطرة والإخضاع وإعادة إنتاج الطغيان تحت عباءة الحرية والتقدم.

العام 2025 لم يحمل انفراجا، بل جاء امتدادا للأزمات ذاتها، بمشاريع وأدوات جديدة. تفاقمت أزمات الطاقة والغذاء، وتصاعدت الانهيارات الاقتصادية، وبرزت مجددًا تيارات شعبوية وفاشية في أوروبا والولايات المتحدة. ووسط هذا المشهد تُعاد صياغة التحالفات، وتُعاد تسمية الأعداء، وتُحدد مسارات الحروب القادمة. كل ذلك يجري وسط تعمية متعمدة، وصناعة وعي مُمنهج، يزرع الشك في اليقين، والتصفيق في وجه الخطر.

هذه ليست عشوائية. إنها سياسة. إنها إدارة محكمة للضباب. شعوب تُغرق في تفاصيل يومية تافهة، بينما تُرسم خرائط العالم الجديد في غرف مغلقة، أو ربما على جزر لا نعرف عنها شيئا. وحين نستفيق، قد نجد أن الحدود تغيّرت، والهويات تبعثرت، والدين صار أداة، والإعلام صار سلاحا، والإنسان رقما في معادلة أكبر.

النظام العالمي الذي نواجهه لا يؤمن بالقيم، ولا الأخلاق، ولا الإنسان. يُدار من خلف الستار، ويُعيد ابتكار أدواته بوتيرة أسرع من قدرة الشعوب على الفهم أو المقاومة. والناجون من هذا المشهد لن يكونوا الأقوى، بل الأوعى. أولئك الذين يملكون البصيرة وسط الضباب، والشك وسط التصفيق، والرفض وسط القبول العام.

لذا، فإن أول خطوة في مواجهة هذه المنظومة هي الوعي. أن نعرف ما الذي يُراد لنا أن نصدقه، وما الذي يُخفى عنا. أن نقرأ ما بين السطور، لا ما يُكتب فقط. أن نطرح الأسئلة: من المستفيد؟ من يربح من الفوضى؟ من يصنع لنا أبطالنا وأعداءنا؟ وما الذي يمكننا فعله، نحن الذين نعيش على الهامش، وسط ضجيج هذا العالم وصمت الحقيقة؟

9