هشام المشيشي رئيس حكومة تونس في عين عاصفة الأحزاب وقيس سعيّد

هل ينجح رئيس الحكومة التونسية المكلف في اختبار الفاتح من سبتمبر أمام البرلمان؟
الأحد 2020/08/30
يمر  أم لا يمر

منذ تكليفه، في نهاية يوليو الماضي، رئيسا للحكومة التونسية الجديدة، والجدل يدور حول شخصية هشام المشيشي الذي سيتسلم، إذا مرّت حكومته، بلادا واقفة على حافة الإفلاس الاقتصادي وتشهد بوادر حقيقية لانفجار مجتمعي وسياسي في نفس الوقت ما جعل مراقبين يعلقون الآمال عليه، رغم معرفتهم المُسبقة بأن هذه الفترة عنوانها الأكبر الصراع على التموقع السياسي.

المشيشي أصبح اليوم مُرغما على تفنيد ما قيل ويُقال يوميا عن ’’الفتية الذهبيين‘‘ الذين حكموا بعد ثورة 14 يناير وفشلوا في الاستجابة لتطلعات شعب بات ينبذ الأحزاب وهجر العملية السياسية بحثا عن خلاص فردي من الأوضاع المجتمعية والمعيشية الصعبة.

وبالرغم من أنه يتسلح بشرعية الرئيس الانتخابية، حيث يُجمع الشارع على تأييد الرئيس قيس سعيّد رغم بعض الانتقادات، إلا أن المشيشي سيجد نفسه في معادلة سياسية صعبة لم يصغها بنفسه أو يساهم في صوغها، لكنه أجبر على التعامل معها حيث تدفع ’’الترويكا الجديدة‘‘ التي تقودها حركة النهضة الإسلامية في البرلمان إلى إفشال مخططات الرئيس سعيّد في ”إرساء نظام رئاسي“، وتدفع نحو الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة ما يعني أنه قد تتم الإطاحة بالمشيشي في أي وقت.

في الفاتح من سبتمبر المقبل، سيُختبر المشيشي بعرض فريقه الحكومي على أنظار البرلمان المُنقسم على نفسه فإمّا أن يحظى بثقة المجلس النيابي الذي تجاوز في البداية الممثلين فيه بتخطيط مُسبق من الرئيس سعيّد، وإمّا يدشن عهد انتكاسات للرئيس سعيّد بعدم تزكية حكومته؟

وفي كلتا الحالتين، سواء مرّت حكومته أو لم تمرّ، فإنّ الجلسة التي سيطلب فيها المشيشي ودّ البرلمان ستفتح مرحلة جديدة في تاريخ البلاد أو على الأقل في المعركة الدائرة منذ فترة بين قيس سعيّد والأحزاب.

رجل ظل للرئيس

الرئيس سعيّد يثق بالمشيشي ثقة مطلقة، وربما لهذا السبب، يرى البعض أنه اختاره تحضيراً لصدام مرتقب مع حركة النهضة الإسلامية
الرئيس سعيّد يثق بالمشيشي ثقة مطلقة، وربما لهذا السبب، يرى البعض أنه اختاره تحضيراً لصدام مرتقب مع حركة النهضة الإسلامية

بينما كان التونسيون يحتفلون في الشارع بعيد الجمهورية، خرج الرئيس سعيّد ليعلن عن ’’الشخصية الأقدر‘‘ في نظره لقيادة المشاورات الحكومية وهو وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال؛ هشام المشيشي.

لم ينزل هذا الخبر بردا وسلاما على الأحزاب التونسية التي تجاوزت كل الخطوط الحمر على ما يبدو بتمديد صراعاتها ووصولها حدّ تعطيل أشغال البرلمان كمؤسسة دستورية. صافح آنذاك، رئيس الحكومة المكلف، التونسيين بكلمة مقتضبة نُشرت على صفحة الرئاسة شدد فيها على أن الاستجابة لتطلعات التونسيين ستكون أولى أولوياته.

يُعدّ المشيشي أحد أبرز المقربين من دوائر الرئيس سعيّد فهو ينحدر من ولاية جندوبة شمالي البلاد، ذلك الإقليم الذي يوصف بأنه مهمّش ولم يسبق أن مثّله أي رئيس حكومة منذ حصول البلاد على استقلالها في 1956.

لم يسبق أن لعب أدوارا سياسية تُذكر، فالرجل تقلد منصب مستشار لدى رئيس الجمهورية، مكلف بالشؤون القانونية، كما شغل في 2014 مدير ديوان وزارة النقل لكن دون أن يخوض غمار تجربة حزبية.

على أنه رجل قانون بامتياز، حيث تحصل على الأستاذية في الحقوق والعلوم السياسية بتونس، وشهادة ختم الدراسات بالمرحلة العليا للمدرسة الوطنية للإدارة، وعلى الماجستير في الإدارة العمومية من المدرسة الوطنية للإدارة في ستراسبورغ بفرنسا.

وليلة تكليف المشيشي، اهتزت بعض مواقع التواصل الاجتماعي التي انتشت بخطوة الرئيس، حيث رأى العديد من التونسيين أنه من الضروري تجاهل الأحزاب التي عليها الاستراحة، ولو قليلا، والقيام ببعض المراجعات بعد “السقطات المتتالية” التي وقعت فيها.

لكن، ومن جهة أخرى، يُعرف عن المشيشي أنه من أبرز الشخصيات التي يثق بها الرئيس سعيّد، وأن هذا الأخير ربما اختاره لأي صدام مرتقب مع حركة النهضة الإسلامية التي يخوض زعيمها، راشد الغنوشي، آخر معاركه السياسية من رئاسة البرلمان إلى تجاوز صلاحيات الرئيس.

ويبدو أن امتعاض النهضة من تكليف الرجل في خطة وزير للداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ أبرز دليل على أن المشيشي قد يكون ’’الجوكر‘‘ القادر على قلب الموازين في مواجهة حركة النهضة التي تستمد شرعيتها من فوزها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

شبح السقوط

المشيشي يتوجه الثلاثاء إلى المجلس النيابي، حاملاً أسماء غير معروفة لدى الشارع التونسي، دون أي ضمانات، حيث لا يزال العديد من الأحزاب يراوح مكانه بشأن منح الثقة لرئيس الحكومة المكلف

ولا شك، أن أي متابع للشأن السياسي في تونس يلحظ أن الرئيس سعيّد لم يعد يبحث عن شخصية تحمل برنامجا قادرا على التطبيق بقدر ما هو في أمس الحاجة إلى رجل يُطيعه ويمثل بالأساس ذراعا قوية بالرغم من تجربة سلفه المريرة مع يوسف الشاهد الذي أتى به إلى رئاسة الحكومة ثم انقلب عليه ليحتمي بحركة النهضة في مواجهته. هذا السيناريو، الذي يبدو أن الرئيس اتعظ به، جعله يدفع المشيشي نحو تشكيل حكومة كفاءات مستقلة تستثني الأحزاب.

ولكن اختيارات الرئيس سعيّد التي تطعن في شرعية الأحزاب وتتجاوزها، تؤكد من جهة أخرى محاولاته التي لن تهدأ لتكريس مشروعه، وهو مشروع لا يزال ضبابيا في الواقع، رغم كل التكهنات، فالبلاد اكتوت بعد 2011 بنظام شبه برلماني، وهو نظام هجين، ما جعل منتقديه يطمحون للعودة إلى نظام رئاسي.

ومن خلال اختياره، بدا الرئيس سعيّد يعد العدة لتقويض نفوذ البرلمان وممثليه ولاسيما حركة النهضة التي نقل رئيسها الصراع داخل المجلس النيابي إلى ملعب الرئيس من خلال تهديد صلاحياته مستقويا عليه في ذلك بدستور مليء بالتناقضات.

ما يمكن استخلاصه من كل ما سبق ذكره، أن المشيشي لن يمثل، في حال كُتب النجاح لحكومته أمام البرلمان، إلا رجل ظل للرئيس الذي يأتمر بأوامره في صراع مفتوح مع الأحزاب والمجلس النيابي، في سياق صعب تمر به تونس على جميع الأصعدة ولاسيما الاقتصادي منها.

 وبالرغم من تعويله على شرعية الرئيس لتحميه من نيران البرلمان، يبدو أن مهمة رئيس الحكومة المكلف لن تكون سهلة في اختبار الثلاثاء الطويل على ساكن قصر قرطاج الذي سيشهد جولة ثانية شبه حاسمة في معركته ضد البرلمان.

المشيشي وبأسماء غير معروفة لدى الشارع يتوجه الثلاثاء إلى المجلس النيابي دون أي ضمانات حيث لا يزال العديد من الأحزاب يراوح مكانه بشأن منح الثقة للمشيشي من عدمها.

فمنذ البداية اختار الرئيس النهج الذي ستسير فيه هذه الحكومة، بطريقة جعلت المشاورات باردة ومرتبكة أحيانا، حيث أرجأ رئيس الحكومة المكلف الإعلان عن طبيعة حكومته حتى شارفت المدة التي منحها إياه الدستور على النهاية.

وبالرغم من إعلان أحزاب صغرى على أنها ستكون سندا للمشيشي في اختبار الثلاثاء على غرار حركة تحيا تونس (10 نواب من مجموع 217 نائبا)، إلا أن مهمة المشيشي ستكون صعبة، حيث لم تحسم حركة النهضة (54 نائبا) بعد موقفها من الحكومة.

تركة ثقيلة

امتعاض النهضة من المشيشي يعود إلى لحظة تكليفه في حكومة الفخفاخ، أما زعيمها الغنوشي الذي يخوض آخر معاركه بتجاوز صلاحيات الرئيس، فيخشى أن يكون المشيشي ذلك "الجوكر" القادر على قلب الموازين.
امتعاض النهضة من المشيشي يعود إلى لحظة تكليفه في حكومة الفخفاخ، أما زعيمها الغنوشي الذي يخوض آخر معاركه بتجاوز صلاحيات الرئيس، فيخشى أن يكون المشيشي ذلك "الجوكر" القادر على قلب الموازين.

في المُقابل، رفض ائتلاف الكرامة الشعبوي والإسلامي (22 نائبا)، إلى جانب التيار الديمقراطي (19 نائبا)، تزكية المشيشي، بينما رفع الحزب الدستوري الحر فيتو على أسماء معينة منتقدا بشدة على لسان رئيسته عبير موسي اختيارات الرجل. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المشيشي سيواجه حتما أسئلة حول تجربته السياسية وحنكته في إدارة دواليب دولة حيث لا يُنظر إليه إلا على أنه مجرد عرّاب عهد سعيّد.

مورست على المشيشي الأسبوع الماضي ضغوطٌ متزايدة، ولاسيما بعد إعلان أحد وزرائه المقترحين نيته الانسحاب من التركيبة المقترحة ما دفع برئيس الحكومة المكلف باستبعاده. لكن، لم تكد تمر ساعات حتى استقبل الرئيس سعيّد الوزير المعني وهو وليد الزيدي، وزير الشؤون الثقافية، مثمنا تسميته على رأس الوزارة، وهو ما وضع المشيشي في موقف مُحرج.

وحتى إن مرت حكومة المشيشي في عملية مخاض عسيرة، فإن صمودها يبقى محل شكوك كبيرة حيث لا يوجد إجماع داخل المجلس النيابي على دعمه أو دعم برنامجه الذي سيطرحه. بعد أن ألمحت تصريحات لرئيس حركة النهضة الإسلامية

في وقت سابق إلى أن النهضة تجهز للإطاحة بالمشيشي من الآن حيث قال ’’على الأرجح ستنال حكومة المشيشي ثقة البرلمان من خلال تغليب منطق الضرورة‘‘، مشيرا إلى أنه ’’حتى منحها الثقة يعتبر مشكلا حيث لا تمثل هذه الحكومة لا البرلمان ولا الأحزاب‘‘.

تحديات اقتصادية ومجتمعية كبيرة ستكون أمام حكومة المشيشي، حيث أغرقت الأحزاب والعديد من الأطراف تونس في وحول صراعات يصعب حسمها الآن ما يحتم عليه التريث في تثبيت مخطط للإمساك بخيوط اللعبة.

العديد من الجبهات ستُفتح في وجه المشيشي دفعة واحدة، أولاها إعادة تونس إلى العمل من خلال فض العديد من المشكلات الاجتماعية التي شلت مؤسسات وأوقفت إنتاج النفط والفوسفات وغيرهما. ولعل أبرز هذه الاضطرابات التي هزت الإنتاج في تونس يتمثل في اعتصامي الكامور بولاية تطاوين جنوب البلاد وتوقف إنتاج الفوسفات بولاية قفصة.

المشيشي مرغمٌ اليوم على تفنيد ما قيل ويُقال يوميا عن "الفتية الذهبيين" الذين حكموا بعد ثورة 14 يناير، وفشلوا في الاستجابة لتطلعات شعب بات ينبذ العملية السياسية بحثا عن خلاص فردي من الأوضاع الصعبة
المشيشي مرغمٌ اليوم على تفنيد ما قيل ويُقال يوميا عن "الفتية الذهبيين" الذين حكموا بعد ثورة 14 يناير، وفشلوا في الاستجابة لتطلعات شعب بات ينبذ العملية السياسية بحثا عن خلاص فردي من الأوضاع الصعبة

إلى ذلك، سيضرب المشيشي موعدا مع العديد من الألغام التي زرعها البرلمان حيث مرّر في وقت سابق، على سبيل المثال، قانونا شعبويا بامتياز يقضي بتشغيل من تجاوزت بطالتهم الـ10 سنوات في القطاع العمومي ما يجعل الآلاف يطالبون بحق التشغيل في الوظيفة العمومية في بلد يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة.

كما أن رئيس الحكومة المكلف الذي يُنظر إليه على أنه لا كفاءة له في المجال الاقتصادي، سيكون أمام رهان تنظيم الاقتصاد الوطني حيث يتطلع منه مراقبون إلى أن يمس ملفات لا تزال مُغلقة على غرار الإصلاح الجبائي الذي سيحفز المستثمرين على العمل والإنتاج مقابل التصدير والانفتاح على أسواق أخرى.

ويعدّ ملف التهريب من بين الملفات التي لم تجرؤ أي حكومة على الدفع بتنظيمه من خلال دمجه في الاقتصاد الوطني والمزيد من تقنين التجارة على الحدود.

أما خارجيا، فسيواجه المشيشي ضغوطا من المانحين الدوليين الذين يلحّون من أجل تطبيق إصلاحات تلقى اعتراضات واسعة في الشارع التونسي، على غرار الدفع نحو التفويت في بعض المؤسسات العمومية مثل شركة الخطوط الجوية التونسية وهي مؤسسات تقترب من إعلان إفلاسها. في المحصلة، هشام المشيشي قد يكون رجل المرحلة المُقبلة إذا أراد هو ذلك، مستندا على شرعية الرئيس، وبوسعه أن يلعب دورا محوريا يُخرج تونس من أزمتها، وقد يكتفي بأن يكون مجرّد أداة بيد الرئيس قيس سعيّد لتدشين نظام سياسي جديد بتوازنات جديدة مهما كانت نتيجة تصويت الثلاثاء تحت قبة البرلمان بباردو.

8