نديم كرم يقع في محظور أحلامه

مضى عام على انفجار مرفأ بيروت، إلاّ أن ما خلفته الكارثة من آلام ودمار بقي عالقا بأذهان اللبنانيين وخاصة الفنانين الذين وثّقوا الفاجعة كلّ على طريقته. واليوم، وفي قلب مرفأ بيروت يقف مجسم حديدي عملاق على أطلال الدمار أنجزه الفنان - المهندس نديم كرم، لاقى ردود فعل متباينة بين مرحّب به ورافض له.
بيروت - في أواخر شهر يوليو الماضي ظهر مجسم حديدي من الصلب بلغ ارتفاعه خمسة وعشرين مترا في المكان الذي حدث فيه تفجير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس من السنة الماضية. أما صانع هذا المجسم المعدني فهو الفنان اللبناني/ المهندس والمتعدد الوسائط نديم كرم.
لم يمرّ حدث “إنزال” هذا المجسم في وسط بيروت مكان الجريمة مرور الكرام، فالمرحّبون به كانوا كُثرا، ولكن من بغضوه بغضا جمّا كانوا أكثر.
انتقادات لاذعة
المجسم الحديدي الذي صنعه الفنان اللبناني نديم كرم ليجسّد الألم والفرح تخليدا لذكرى تفجير مرفأ بيروت حمل عنوان “مارد من رماد”. وكان لهذا العمل منتقدون من أنواع مختلفة: منهم من وجه انتقادات فنية لاذعة ومنهم من رأى في المُجسم أموال الجلادين/ السياسيين الذين موّلوه.
هؤلاء وجدناهم خاصة على صفحات التواصل الاجتماعي وغيرهم في مقالات على مواقع إلكترونية، صبّوا حقدهم الذي يكاد أن يكون شخصيا على فنان اعتبروه من الفنانين التجار وقناصي الفرص والراغبين في النجومية والمرفّهين/ المترفين خارج أوجاع الناس وظروفهم. واعتبره البعض محترفا في استجلاب الأموال لتمويل أعماله (رغم أن هذه ليست بتهمة).
العصفور الذي يمثل الأمل والحياة والعدالة بالنسبة إلى الفنان بدا مكسورا ومهيضا بقبضة الكائن عديم الإحساس
دافع الفنان عن “مارده”، وهو الغنيّ عن السعي للوصول إلى النجومية، لأنه هو هناك فعلا، وذلك منذ تسعينات القرن الماضي.
وعن مجسّمه قال كرم “المارد يُظهر قوة إرادة الشعب اللبناني من أجل الحياة والوصول إلى الحقيقة. بدأ مشروع تنفيذه منذ قرابة التسعة أشهر، وفكرته انطلقت من تحويل الركام إلى عمل فني يجسّد ماردا يمدّ يده ويخرج منها المياه التي تجسّد الحياة، ويجلس فوقها مجسم صغير لطائر يأمل في أن يحلق. أما رأس المارد فيخرج منه ما يشبه الضباب، الذي يجسّد الضيق من الوضع السياسي”.
وأضاف الفنان أن مارده لا علاقة له بأي جهة سياسية، وهو بمثابة تكريم للضحايا الذين سقطوا جراء هذه الفاجعة. ويستطرد كرم قائلا بأنه يتفهّم الانتقادات التي ولّدها مجسمه لأن حق الانتقاد مشروع، إلاّ أن ما لا يقبله بتاتا أن يتم اتهامه بالافتراء والكذب وتبني جهة سياسية تمويله.
ما يهم ذكره بغض النظر عن الانتقادات هو أن أهالي الضحايا/ الشهداء والمتضرّرين من التفجير رحبوا كثيرا بمارده وكانوا قد حضروا يوم إزاحة الستار عنه.
قصة هذا الفنان ومجسمه ليست بسيطة، لأنها لا تنفي ولا تجزم كل اتهام. وليست بسيطة لأنه من المستحيل النظر إليها إلاّ من خلال سيرة الفنان وأفكاره التي جسّدها وحاول تجسيدها منذ بداية تسعينات القرن الماضي.
فالفنان له أعمال فنية كثيرة في مختلف أنحاء العالم تُبرز موهبته وقدرته على إنجاز مجسمات تميل إلى السذاجة البصرية والتعقيد التركيبي في الوقت ذاته، وعلى درجة عالية من الجمالية.
ويحتم على أي “كاره” لأعماله أن يرسم الخط الرفيع والأساسي بين ما يراه هو، كمُشاهد، من خلال تذوّقه الشخصي للأعمال الفنية وبين ما هو فنيّ بكل معنى الكلمة، وإن لم يرق له.
جرح مفتوح
لنديم كرم أعمال رائعة لبساطتها وتعقيدها وأجوائها الطفولية وهي كثيرة ومنها مجموعة مجسمات لأشخاص وأولاد يركضون، ويرقصون وعصافير وأشياء طفولية.
هذه المجموعة يذكرها كل من كان في فترة التسعينات في بيروت، بعد “انتهاء” الحرب قبيل ورشة الأعمار الجدلية. وقد تفاجأ الكثيرون كما تفاجأت شخصيا عند رؤيتي لها. يومها لم أفهمها. أذكر أنها جعلتني ابتسم، لأنها برزت بشكل لا يمكن وصفه، خارج سياق الموت والدمار والخوف، والكآبة التي كنا نعيشها.
شكّلت بالنسبة لي وللكثيرين حالة الإفلات من الحزن ومن الحرب كما يخرج الأطفال راكضين من المدرسة عند انتهاء الدوام. هل بسّط الفنان خطورة الأمر؟ هل بالغ حينما أخرج شخوصه الفرحة/ المرحة إلى العلن دون أن يتساءل عن حقيقة هذا السلم الغرائبي الذي ولد بين يوم وليلة؟ ربما، ولكنها أعمال وبأشكالها الساذجة تخدم وتشبه عالم الفنان نديم كرم المبني على أفكار ثابتة له لم تتغيّر على مرّ السنين، وقد تتلخص بهذه الكلمات التي قالها يوما عن أعماله. قال “هذا أكثر ما يهمني: كيف يمكنني أن أقدّم للمدن لحظات من الحلم”.
ومن أهم أعماله منحوتة “الغيمة الماطرة” و”طفل فينيقي على حدبة جمل”، ومجموعة أعمال (نحت ورسم) أنجزها الفنان وقدمّها تحت عنوان “خواطر مطّاطية” منذ عدة سنوات في صالة “أيام”، حيث يظهر الفرد الإنساني في لوحات وفي مجسمات نحتية حقّقها الفنان في وضعيات جلوس أو وقوف مختلفة.
ولكنها بقيت كلها مرتعا لحقل من الأفكار المتداخلة التي تتشابك بغزارة لتخرج أو تبقى في رأس “إنسانه”. ريثما تجد لذاتها مخرجا أو سبيلا إلى التحقّق.
كما نذكر المجسم الرائع “عجلات الإبداع” في طوكيو بغضّ النظر عن البلبلة التي أثيرت حوله، أما الغضب الشديد الذي خلفه عمله الجديد، فهو غضب مفهوم.
ولعل تعبير “غلطة الشاطر بألف غلطة” تنطبق تماما على الفنان وذلك لعدة أسباب، أولا، لأنه عمل كئيب، نصب لا يوحي بالأمل الذي أراده الفنان. وفيه من البشاعة والحضور الطاغي الذي لا يسمح لأي كائن آخر أن يشارك فضاءه.
أما العصفور الذي يمثل الأمل والحياة والعدالة بالنسبة إلى الفنان فهو يبدو مكسورا ومهيضا بقبضة الكائن عديم الإحساس. ثانيا، توقيت إنجاز وعرض عمل فني بهذه الضخامة يدعي اختصار المأساة هو أمر مُنفّر. فتفجير الرابع من أغسطس ليس مناسبة عفا عليها الزمان ومضى، أو قضية أُقفل ملفها فجاز تحويلها إلى رمز، بل هي جرح مفتوح ويزداد التهابا مع الزمن.ثالثا، كان على الفنان “الحالم” (وهذه أيضا ليست بتهمة) أن يكون أكثر إلماما بالوضع السياسي في البلاد وما يحيط بهذا الانفجار من فضائح مشينة، أو على الأقل أن يكون قادرا على ترجمة هذه الأفكار الشائكة في عمله الفني.
من هنا يمكننا القول إن صيغة واحدة كانت ستكون ناجحة لو حقّقها الفنان وهي لو قدّم هذا المجسم “الكريه” على أنه الطبقة الفاسدة، وقام بمساءلتها، لا بل بمحاكمتها عبر تدميرها في يوم الافتتاح.
ولكن، هل كان للفنان أن يحصل على إذن رسمي في عرض هكذا عمل لو علمت السلطات الفكرة من ورائه؟ على الأرجح لا. فالجلاّد يكره أن يُدان حتى وإن كانت يداه مضرجتان بدماء لم تجف.
