مِنَحُ الكتابة ومشروعاتُ التفرّغ تكافئ الأدباء وتغتال الإبداع

فكرة رعاية الأدباء النبيلة في جوهرها قد تتحول إلى نفقات اجتماعية دورية للكسالى وغير الموهوبين ودعم للمحتاجين.
الأربعاء 2020/11/25
التفرغ للكتابة أمر صعب (لوحة للفنانة إيمان شقاق)

التفرغ للإبداع يشبه الحلم بعيد المنال الذي يراود كل الكتاب العرب. وصعوبة تحقيقه تتأتى من عدة عوامل أبرزها ضعف نسب القراءة وعدم وجود سوق نشيط للكتب. وهو الأمر الذي دفع إلى إنشاء مبادرات حكومية ومن منظمات خاصة لدعم بعض الكتاب للتفرغ لمدة معينة للإبداع، لكن هذا أيضا له آثاره السلبية الكبيرة على المبدع وإبداعه.

ليس من شك في أن حلم الأديب العربي الأكبر يتمثل في أن يكون إبداعه عمله الاحترافي الذي يتكسّب منه، دون أن يضطر إلى الانخراط في أشغال أخرى لا تروق له، وتعطله عن مسيرته الإبداعية.

وهذا الحلم لا يزال بعيد المنال لأسباب متعددة، ما يطرح بدائل جزئية لمحاولة مكافأة المبدعين وتعزيز استقلاليتهم، منها مِنَحُ الكتابة ومشروعاتُ التفرّغ، التي ترعى من خلالها مؤسسات وهيئات عربية متعددة المؤلفين والمبدعين، وتعوّضهم ماديا، لحثهم على الإنجاز والإنتاج، وفق شروط مقننة وتوقيتات محددة.

مؤسسات الرعاية

احتراف الأدب أو الأدب الاحترافي، مهنة لا وجود لها في عالمنا العربي، إلا في أحوال بالغة الندرة والخصوصية كروايات الـ”بيست سيلرز” الاستهلاكية وسلاسل مغامرات الناشئة مثلا، فالأديب هو ببساطة ذلك الشخص الذي لا يعمل أديبا، رغم أنه الذي يتولى إنتاج الأدب، ومن ثم يرى ذاته دائما في دائرة البطالة، طالما أن سوق العمل لا تعترف بإبداعه كصناعة رائجة مربحة.

يتمنى الأديب العربي لو يكون كأي عامل على وجه الأرض في استحقاقه توزيع ساعات يومه بعدالة: ثماني ساعات للعمل، وثماني ساعات للنوم، وثماني ساعات للفراغ والراحة والاستمتاع، لكن صاحب المهنة الزئبقية منخرط بالضرورة في شغل أو أشغال أخرى لكسب العيش، لثماني ساعات أو أكثر، من أجل مجابهة متطلبات الحياة وأعبائها المتلاحقة. أما حصة الأدب، فهي مقتطعة من الأوقات المخصصة للفراغ والراحة والنوم، أو من وقت العمل المأجور، حيث يعني الأدب الشقاء المتواصل بغير عائد، بل إنه قد يتسبب في خسارة جزء من الدخل أو المخاطرة بفقدان الوظيفة والأمان.

تعويضات المؤسسات للمؤلفين تجعلهم كتابا تحت الطلب
تعويضات المؤسسات للمؤلفين تجعلهم كتابا تحت الطلب

هناك مؤسسات لرعاية الأدباء في ظل منظومة احترافية متكاملة، دعائية وترويجية وتسويقية، تفرز في النهاية إبداعات مطلوبة، مدرّة للأرباح الطائلة، يتقاسمها المؤلفون والناشرون.

لكن صيغ الدعم المشابهة تكاد تقتصر على تلك المؤسسات والهيئات، الحكومية والأهلية، التي توفر تمويلا ماديّا للأدباء والمبدعين والباحثين، تحت مظلة منح الكتابة ومشروعات التفرغ، في مجالات متنوعة.

وكي يفوز الأديب أو المبدع أو الباحث العربي بعطايا هذه الجهات، التي قد يكون نشاطها محليّا أو على مستوى العالم العربي كله، فإنه يكون مطالبا بالتفرغ الكامل والانقطاع عن كافة أشغاله الأخرى، وعليه الالتزام الكامل ببرنامج المنحة وهو برنامج يتضمن كافة تفاصيل العمل المزمع إنتاجه، ومواصفاته، ومحدداته، وأفكاره، إلى جانب الجدول الزمني اللازم لتنفيذه، وبغير التزام المتقدم بهذه الشروط، تنقطع عنه الهبة مباشرة.

من الأمثلة على هذه المنح: برنامج “مفردات” للتفرغ للكتابة، وهو موجه للكُتّاب الصاعدين في العالم العربي في مجالات الأدب المعاصر، الروائي وغير الروائي، والشعر، ويدعم إجازة تفرغ للمبدع مدتها ثلاثة أشهر لاستكمال مشروعه الكتابي خلال هذه المدة.

ومنحة مؤسسة “المورد” الإنتاجية، التي تستهدف الفنانين والأدباء العرب بدعم مشاريعهم الإبداعية في مجالات الموسيقى والسينما والأدب والفنون البصرية وفنون الأداء، خلال فترة محددة.

ويقدم المجلس الأعلى للثقافة بمصر سنويّا منحا للتفرغ في الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ومن شروطها تقديم المبدع أو الباحث خطة تفصيلية لمشروع تفرغه، ويتلقى من يقع عليه الاختيار مكافأة مالية شهرية لمدة عام، بحد أقصى أربعة أعوام متصلة أو منفصلة.

وتموّل وزارة الثقافة بالأردن مشروعات تفرغ مشابهة في مجالات الإبداع المختلفة: الأدب، الفن التشكيلي، التصوير الفوتوغرافي، الموسيقى، المسرح، الدراما، الأفلام الوثائقية، وتُقبل المشروعات الإبداعية أو تُرفض وفق خطة أولية يعدها المتقدم، ويشترط عدم خروجه في إبداعه عن تفاصيل هذه الخطة المسبقة.

مكافأة وعقوبة

بالنظرة المتأنية إلى هذه المنح والتمويلات، يتجلى بوضوح أن وجود مؤسسات تقدّم تعويضات مادية للمؤلفين كي يتفرغوا للكتابة لا يعني في حقيقة الأمر أن الإبداع قد صار صناعة مكتملة مربحة، ولا يعني أن الأدباء العرب لم يعودوا عاطلين عن العمل، فليست هناك سوق تجري فيها العملية الإبداعية والتسويقية بشكل طبيعي وفق قوانين العرض والطلب، لكن هناك جهات تبدو كأنها تشفق على أحوال المبدعين، ومن جانب آخر فإنها توجههم وتسيطر على حركتهم الحرة وتتحكم في إنتاجهم.

إن استصدار أمر بمكافأة الأدباء والمبدعين على هذا النحو مرهون باغتيال تلقائية الإبداع وعفويته وفيوضاته، فآلية الكتابة والإبداع تحت ضغط الوقت والشروط المحددة ربما تلائم الأبحاث العلمية والدراسات النقدية والإنسانية نسبيّا، لكنها قد تقود الأعمال الإبداعية إلى المدرسيّة الصارمة والتلفيق والافتعال والاختناق.

كما أن التزام المؤلف بوجود خطة مسبقة وموضوع جاهز وأفكار وتصورات معدة ومشروحة ومقررة سلفا، وجدول زمني للإنجاز، أمر يبدو مخالفا لروح الإبداع عند كتابة رواية أو مسرحية أو ديوان شعري مثلا، فالدهشة التي يقوم عليها الخلق الفني تتأتى عادة من التماعات خاطفة وتجليات فجائية مبعثها اللاوعي والتدفق الارتجالي. ومثل هذه الخروقات قد تراها لجان المؤسسات الراعية سببا كافيا لوقف التمويل، شأنها شأن تأخر المبدع عن “تسليم” عمله في الوقت المحدد.

وجود مؤسسات تقدّم تعويضات مادية للمؤلفين ليتفرغوا للكتابة لا يعني أن الإبداع قد صار صناعة مكتملة ومربحة

إن الفوضى، في أحوال كثيرة تكون وقودا لإذكاء جماليات العمل الإبداعي، وكسره للمثال النمطي الدارج المألوف، بينما هذه الفوضى غير مسموح بها بالمرة في أجندات منح الكتابة ومشروعات التفرغ، ما يضع هذه الإبداعات المقيدة الموجهة في إطار ضيق ينتهي عادة بالتعليب والبرودة والقولبة، فكأنما مكافأة المبدع تحمل في طياتها عقوبة مضمرة للإبداع ذاته.

أمر آخر بالغ السوء يخيم على نشاطات بعض هذه المؤسسات والهيئات العربية المانحة، منها سيطرة المجاملات وهيمنة الوساطات على لجانها وموظفيها، ما يحوّل فكرة رعاية الأدباء النبيلة في أصلها وجوهرها إلى نفقات اجتماعية دورية للكسالى وغير الموهوبين، ودعم للمحتاجين والمتنطعين والراغبين في الحصول على أجر دون بذل جهد ملموس.

وقد تفجرت فضائح كثيرة، وصلت إلى ذروة العبث والمرارة بما تردد عن اقتسام أعضاء اللجان الحكومية قيمة هذه المنح، مع الفائزين بها من المبدعين والمؤلفين، فيما تكون حصيلة الإنتاج الإبداعي مجرد أعمال وهمية واستمارات يوقّع عليها أعضاء اللجان حال انتهاء المهمة سيئة السمعة، القائمة على الرشاوى والتدليس وذبح الإبداع.

14