"مُبعدون".. تراجيديا مسرحية تعالج قضية الهوية في بلدان المهجر

دانيال بونوان مخرج العمل يرى أن المسرحية شكل من أشكال العودة إلى مسرح يغوص في مجريات العالم المعاصر، ويحلله بمَضاء، ودون مجاملة.
الاثنين 2021/07/05
مزج ذكي بين السياسي والحميمي

لأوّل مرة في فرنسا يُقبل أحد المخرجين الفرنسيين وهو دانيال بونوان مدير الأنتيا على إخراج “مبعدون” للمؤلف المسرحي الأميركي من أصول باكستانية إياد أختر، وهي تراجيديا معاصرة تعالج قضية الهوية والأحكام المسبقة التي تزيد الظروفُ السياسية من تأجيجها.

"مبعَدون" أو "مُقصَون" هي مسرحية حاز عنها مؤلفها الأميركي من أصول باكستانية إياد أختر جائزة بوليتزر للعمل المسرحي عام 2013، وجائزة الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب في العام نفسه، وفيها يمزج بذكاء السياسي بالحميم، ليسلط الضوء على دور العنصر الأول، أي السياسة، في التأثير على العنصر الثاني، ويبيّن ما تخلفه من آثار نفسية مدمرة.

وقد حظيت المسرحية منذ عرضها أول مرة في شيكاغو عام 2012 باستقبال جماهيري واسع وخاصة في العامين 2015 و2016، حيث عُدّت أكثر المسرحيات عرضا، بعد مسرحيات شكسبير.

وتتألّف المسرحية من فصل واحد من أربع لوحات، تدور أحداثها في الولايات المتحدة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. بطلها أمير كابور، محام متخصّص في قانون الأعمال من أصل باكستاني، عضو في مكتب محاماة كبير بنيويورك، يواجه مشاكل بسبب أصوله.

أنكر أصوله ومعتقده الإسلامي كي يسهل اندماجه في مجال يسيطر عليه اليهود، وتزوّج من إيملي وهي أميركية أصيلة، شقراء جميلة وبورجوازية، وفنانة تبدي ميلا إلى الفن الإسلامي.

قبل أمير الدفاع عن إمام متهم، ظلما حسب الدلائل الأولى، بتمويل الإرهاب، ما أثار تساؤلات حول انتماء أمير المحامي في الصحافة، كتلميح لتعاطف محتمل مع مسلم مثله.

المسرحية تروي حكاية شخص يفقد دينه وجاليته، ولكنه يحسّ أنه لا يزال مرتبطا بهما، فيعيش تمزقا بين الحالتين

وتدور أحداث المسرحية في بيت راق يطل على مانهاتن، بمناسبة مأدبة عشاء رفقة اليهودي إسحاق، محافظ الفن، وزوجته جوري، وهي أميركية من أصول أفريقية، ومحامية في المكتب ذاته الذي يعمل به أمير. كان كل شيء متوفرا كي تمضي السهرة في جو ممتع، ولكنها تحوّلت إلى مواجهة عنيفة حول ثيمات حارقة، كالأصول الإثنية والدين والسياسة في الولايات المتحدة اليوم.

خلال العشاء يتفجّر المسكوت عنه والنكران والمظاهر الخادعة، ويحمى الجدل بشكل يتجاوز المجاملة والكياسة، دون ثنائية مانوية، فكل شخص يدافع عن وجهة نظره، ولكن ليس بأسلوب منطقي، بل انطلاقا من معيشه الخاص، سواء أكان مسلما أم يهوديا، أسود أم أبيض، رجلا أم امرأة، فينزلق الجميع إلى منحدر خطير، يشي بمعاداة الإسلام والمسلمين مهما حاولوا تبني قيم البلد المضيف.

والطريف أن إيميلي زوجة أمير غير المسلمة هي التي دافعت عن الدين الإسلامي وإيجابياته، بينما كان أمير ينتقد فيه جوانب كثيرة لا تتماشى مع العصر، ولا بد من قراءتها قراءة حديثة تلائم مستجدات العالم وشروط الإقامة فيه. ولكن بعد أن دارت الكأس ولعبت الخمر ألعابها، انحلت عقد الألسن، فعبّر اليهودي وزوجته عمّا في صدريهما من كره للإسلام، وحمّلاه كلّ الآثام التي ترتكب باسمه في العالم.

ورغم أن تعليمات صدرت في الولايات المتحدة بوجوب تجنّب إثارة موضوعي السياسة والدين، بل واعتبارهما محظورين في الفضاءات الاجتماعية، فإن مشاهدة شخصيات هذه المسرحية وهي تتنازع حول هذه المواضيع المحظورة خلقت مسرحا سجاليا يعالج قضية الهوية من زوايا متعددة، لاسيما في هذا الظرف التي شهد تصاعد معاداة المهاجرين وأبنائهم في مختلف البلدان الغربية وتوجيه إصبع الاتهام إلى المسلمين كافة، حتى أولئك الذين حقّقوا نوعا من الاندماج، إما بالتشبّه بالإنسان الغربي أو بنجاح دراسي ومهني، ولكن أهالي البلدان المضيفة يردّونهم في كل أزمة إلى جذورهم.

Thumbnail

فأمير لم يسعفه تنكّره لأصوله ومعتقده ونجاحه المهني وتزلّفه للنخبة اليهودية من أن يشار إليه بالظنون شأن كل المسلمين في المهاجر الغربية، ولم يَمْحُ زواجه من أميركية بورجوازية وإقامته في أفخر أحياء نيويورك انتماءه، فقد ظل باكستانيا مسلما في نظر الناس وفي قرارة نفسه، وإن حاول التنكّر لغايات وصولية.

وقد اعترف أختر بأن أكثر الأسئلة التي وُوجه بها جاءت من متفرجين مسلمين، تأثروا تأثرا عميقا بما ورد فيها، وعابوا عليه الحديث عن مشاكل المسلمين أمام جمهور غير مسلم، والحال أننا “نعيش اليوم مرحلة صار فيها المسلمون محاصرين من كل جانب”. فيما رأى فيها فيليب روث نوعا من المظلومية الإسلامية.

ويرى دانيال بونوان مخرج المسرحية ومدير مسرح الأنتيا، أنها شكل من أشكال العودة إلى مسرح يغوص في مجريات العالم المعاصر، ويحلله بمَضاء، ودون مجاملة. وقد تناوله في بعده الأوبرالي مستعينا بديكور فضاء مغلق، وهو عبارة عن شقة فاخرة في حيّ راق بمدينة نيويورك تطل على مانهاتن، تتغيّر زمنيته بتغيّر اللوحات والبث الرقمي، كناية على تغيّر المشاهد، مع خلفية موسيقية مبتكرة تنبو عن هدوئها الناعم أحيانا بأنغام موسيقى الروك. وقد برع الممثلون، وخاصة النجم السينمائي التونسي سامي بوعجيلة، في تقمّص أدوار شديدة الإقناع.

يقول إياد أختر “هذه المسرحية تروي حكاية شخص يعيش تجربة تمزّق، فهو يفقد دينه وجاليته، ولكنه يحسّ أنه لا يزال مرتبطا بهما، وبماضيه وبمن ظن أنه تخلى عنهم. مأساته أنه يحسّ داخله بصراع بين حب عميق لذلك الماضي وبين شعور بأنه لم يعد ينتمي إليه”.

16