خبايا عالم السياسة في مسرحية "سردية قومية"

المسرحية ليست درسا في التاريخ ولا موعظة أخلاقية، لأن فرقة بيرجيت أنصامبل تقدم للمشاهد وقائع متخيلة ولا تصدر أحكاما.
الاثنين 2022/01/10
السياسة هي الأخرى صارت أفيونا للشعوب

تطرح مسرحية “سردية قومية” لجودي برتان وجاد هرببيلو التي عرضت مؤخرا في مسرح شاتيون، إحدى الضواحي الباريسية، قضية حارقة تمس جوهر المثل الجمهوري الأعلى وهشاشته، وتعطي الكلمة لمن أهمل التاريخ الرسمي ذكرهم.

بعد استكشاف بعض القضايا الأوروبية الكبرى في أربعة عروض مسرحية، تركز فرقة بيرجيت أنصامبل بقيادة جولي برتان وجاد هيربولو، اهتمامها على مؤسسات الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي ما انفكت عدة أحزاب وحركات شعبية تضعها موضع مساءلة؛ كما تدعو إلى النظر عن قرب إلى الإرث الفرنسي خلال القرن العشرين، وكيف صاغت الجمهورية هويتها عبر سردية فريدة مشحونة بعدة مرجعيات تاريخية وسياسية غير نزيهة. ومحاولة الإجابة عن الكيفية التي بنيت بها الأسطورة الجمهورية، التي تتشكل بواسطتها السردية الرسمية وأثرها على المواطنين، كما نشهد اليوم في تصديق الكثير منهم الخطاب المعادي للأجانب الذي يرفعه اليمين المتطرف.

 كل ذلك من خلال عمل تخييلي استباقي، ولكن له صلة قريبة بما يجري على أرض الواقع، عن حملة انتخابية رئاسية سابقة لأوانها، عقب وفاة رئيس الدولة بصورة مفاجئة.

في صالون الفن الزخرفي بمتحف الإنسان بباريس، ينشط فريق بول شازيل المرشح للانتخابات الرئاسية، فيصبح المبنى نفسه مقاوما لما يجري، وهو الذي كان ملاذا للمهاجرين الروس في ثلاثينات القرن الماضي حيث كان يعرف بالمتحف الأنثروبولوجي، ثم للفارين اليهود الألمان من الملاحقة النازية، حيث تتجلى القوى السحرية الكامنة فيه، وتتولى إفشال الحسابات السياسية البائسة لأعضاء حزب أفق اليميني، الذين اتخذوا المبنى مقرا لحملة مرشحهم. أي أن الحكاية المروية سيكون مركز ثقلها عالما موازيا قد يتجسد في مستقبل قريب.

وبول شازيل هو الابن الروحي للرئيس الراحل الذي توفي فجأة، ما دفع إلى إجراء انتخابات سابقة لأوانها، واستطلاعات الرأي تقدّمُه على منافسته أوليفيا جانو، مرشحة اتحاد أحزاب اليسار. وهو إلى ذلك بطل في المبارزة بالسيف، ليبرالي ومحافظ، والزعيم المثالي ليمين يدعو إلى إعلاء قيم الشجاعة والعزم والحزم، تلك الخصال التي أهلته للفوز في الألعاب الأولمبية حين كان شابّا.

لكن بما أنه لا يوجد حاضر بلا ماض، ولا توق إلى المعالي دون جذور، فإنه لا وجود أيضا لأمة دون تاريخ، حتى وإن حاولنا إخفاء جانبه المظلم. ومن ثمّ كان اختيار متحف الإنسان غير موفق بالمرة، حيث تعالت من تحت الأقبية أصوات من تمّ تكميم أفواههم من زمن بعيد، أصوات الأشباح المخفية التي عادت لتذكر شازيل وفريقه الشاب الطموح بحقائق مخجلة.

تفكيك ما يجري في الكواليس السياسية
تفكيك ما يجري في الكواليس السياسية

هي أرواح من قتلوا تحت الاستعمار، ثم جاء بعض أدعياء الأنثروبولوجيا ليسجنوا جماجمهم في سراديب المتحف. أولئك عادوا ليذكروا المرشح وفريقه بويلات الإمبراطورية الكولونيالية الفرنسية، وقد راحوا ضحايا العسف في أراضيهم، أو انتزعوا منها عنوة للدفاع عن فرنسا في حروبها عبر القارات، ثمّ أنكِر دورهم، وما عادوا يُذكرون في هذه السردية القومية التي تتخير من أفرادها حتى الخونة والمتواطئين مع العدو النازي، وتصد بابها عمن ذادوا عن فرنسا وبذلوا أرواحهم فداء لها.

وتكشف دوامة الحملة الانتخابية وتطوراتها كما ترويها موييرا المراسلة الصحافية التي كلفها أنصار شازيل بإنجاز شريط وثائقي يسجل للتاريخ والذاكرة الجماعية وصول مرشحهم إلى السلطة، عن ممارسات خطيرة على الساحة السياسية، إلى جانب الاعتراف بما لا يمكن الاعتراف به، حيث تنفتح ثغرة في الفريق المحيط بالرئيس الممكن، وتتصادم الآراء بين المساندين، في نوع من الفضاء السياسي المغلق، المشحون بالفنتازيا. ما يؤدي إلى سقوط المرشح وحزبه.

وهو ما توقعته موييرا منذ البداية حين لاحظت أن الماضي الذي لا يمر سوف يؤدي إلى خنق فاقدي الذاكرة من السياسيين، الذين يفضلون الماركتنغ على التاريخ، وأفقية المواقع الاجتماعية على عمودية المؤسسات. فموييرا، من مكانها على حافة الخشبة تتذكر، وما ترويه يجسده الممثلون فيعيش المشاهد لحظات تحيل إلى حد بعيد على سلسلة “بيت من ورق”.

والمسرحية ليست درسا في التاريخ ولا موعظة أخلاقية، لأن فرقة بيرجيت أنصامبل تقدم للمشاهد وقائع متخيلة ولا تصدر أحكاما، غايتها تفكيك ما يجري في الكواليس السياسية، وتحليل أنماط خطاب الذين سيسيرون بالبلاد إلى وجهة، قد تكون غير التي يرضاها الشعب، وغير التي صرحوا بها خلال حملتهم.

وبرتان وهيربولو لا تقدمان أبطالا أشرارا أو كاذبين منافقين أو أدعياء متبجحين في صلف، بل تجعلانهم على صورة رجال ونساء السياسة المحدثين، إذ هم في عمومهم تكنوقراط باردون، وخطباء مفوهون، ومتلاعبون ماهرون، مستعدون أن يغيروا القيم التي ينادون بها حسب استطلاعات الرأي التي ترشدهم إلى اتجاه الريح، والنجاح الانتخابي، فالأخلاق والسياسة بالنسبة إليهم خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا.

 تقول جولي برتان “غالبا ما نؤمن بالخطاب السياسي إيمانا أقرب إلى المعتقد الديني. ولذلك ثمة دائما أشياء لا يمكن النفاذ إليها، نظرا لصعوبة سبرها. وعند كتابة سردية حملة رئاسية، من المثير أن نمسك بما هو لا عقلاني في السياسة، ما لا يفسّر، وما يستعصي على الحصر والفهم. ولأننا متعودون على اعتبار المسألة السياسية خاضعة لقوانين الحقيقة والعقلانية والموضوعية، حرصنا على الكشف عما فيها من ذاتي، ومخفي وحساس”.

14