ملكة الوقت

يسود الصمت، لا صوت يسمع في المقهى، وكأنّها أصبحت خالية.. يمشي السي عبد الجبّار بين الجموع والشرر يتطاير من عينيه وهو يزمجر: قلت ما به الكلب؟.
الأحد 2020/02/23
لوحة للفنان وليد نظمي

عيناه المتورمتان لا تسعفانه لرؤية الطريق إلى الحمّام، يمشي كبطريق متمايلا يمينا وشمالا من شدّة الإرهاق والتعب، يرتطم بالباب، يمدّ يده مرتجفة يمسك بالمقبض، يفتح باب الحمّام، يتوجه مباشرة إلى المغسل، يفتح الصنبور، يغرق وجهه ورأسه الأصلع بالماء، يصله صوت زوجته تصرخ في وجه الأولاد وهي تدعوهم للذهاب إلى المدرسة، تأمرهم أن يقاوموا النعاس، تقول لهم مقولة أصبحت تتردّد في العمارة كلّها: الله غالب.

يدس وجهه في المنشفة، يتأوّه من شدّة حسرته على أبنائه وعلى زوجته وقد حرمهم كلب الجار من النوم، لقد اشتاق إلى شخير زوجته البدينة الذي طالما أزعجه.

لا رغبة لديه في تناول القهوة التي أعدّتها زوجته قبل أن تذهب إلى بيت أهلها في الحي المجاور لتنام على الأقل لساعتين أو ثلاثة كي تتمكن من ممارسة حياتها العادية، وتحمّل مسؤولياتها تجاه بيتها وزوجها وأولادها. بالكاد يغيّر ملابسه، ويغادر لينزل إلى مقهى الحيّ بغرض بحث الأمر مع سكان العمارة الذين قرّروا الاجتماع لدراسة وضعيتهم المزرية إزاء هذا الكلب الذي نغّص عليهم عيشتهم بنباحه الذي لا ينقطع صباحا ومساء، وأكثر من ذلك أصبح يشكّل خطرا على السكان وأطفالهم، إنّها المرّة الثالثة التي يعضّ فيها طفلا، ولا أحد تجرّأ على تقديم شكوى.

كان نباح الكلب لا يزال يصمّ الآذان والأطفال يجرّون أقدامهم من شدّة التعب وهم ينزلون أدراج السلم، يهمس الصغير علي ابن منوّر الحلاق في أذن أخته وهو يمسح المخاط النازل من أنفه بكمّ مئزره بأنّه قرّر قتل الكلب بأنّ يدسّ له السمّ في الطعام، ترتعش أخته من هول الفكرة، تمدّ يدها الصغيرة تضعها على فمه تسده وهي تنظر يمنة ويسرة خشية أن يكون أحد سمعه، تتعثرّ في الدرج الأخير وهي ترى موسى ينزل وهو يدس جسده النحيل في معطف رثّ، تلقي عليه التحية وهي تحاول إخفاء الصغير

علي، يتوقفان عن المشي، تهمس في أذن أخيها: ألم تقل لنا أمّي بأنّ سي عبد الجبّار صاحب الكلب قوي، سيكسر أضلع من يقترب من كلبه. يطأطئ الصغير رأسه الملفوف في قبعة

نسجتها والدته، تطوقه أخته بذراعها وهي تعرف ما ينتظرها من عقاب إذْ أنّها لم تراجع درس “الكَلَب” عن سبق إصرار من شدّة كرهها للكلاب ولكل ما له علاقة بهم، لقد أبلغت أمّها بقرارها إذا ما أقدم المدرّس على معاقبتها ستقول له: خلّصونا من كلب السي عبد الجبّار أولا ثمّ أعطونا دروسا حول الكلب والكلاب.

يظلّ موسى يتأمّل الطفلين بعينين أرخى جفنيهما النعاس وهما يمضيان بعيدا عن عمارة أرعبها كلب، لقد استحضر فيهما صورة أولاده الذين غادروا قبلهما إلى المدرسة، وهو لا يدري إن كان مدير المدرسة التي يدرسون فيها سيستدعيه مرّة أخرى ليقدّم له إنذارا حول حالة أولاده اللذين ينامون أثناء الدرس.

لم يعد يقتنع بقصّة الكلب. تأكّد له أكثر من أيّ وقت مضى بأنّ هذا الكلب أصبح يهدّد مستقبل سكان العمارة فعلا. تستوقفه لافتة وضعها جاره مسعود المدرّس كُتبت عليها أبيات شعرية في مدح كلب. يبصق على اللافتة، وقد أدرك خيانة مسعود الكلب الذي يدّعي بأنّه من رجال التربية والتعليم.

يقاوم النعاس، ينفخ صدره، ويندفع إلى خارج العمارة، يقطع الطريق مهرولا غير مبال بمنبهات السيارات. يصل إلى المقهى، يلمح تجمهر سكان العمارة، يدخل، يأخذ مكانه بين المجتمعين، يركّز نظره على جاره مروان يرغي ويزبد ويتوعّد كلّ من يخلّ بالاتفاق الذي تخرج به الجماعة للقضاء على مشكلة الكلب في هذا الاجتماع بأقسى العقوبات قد تصل إلى حدّ مقاطعة سكان العمارة له.

يصرخ من أقصى زاوية في المقهى حسين النجار بأنّه سيقطّع بمنشاره هذا الكلب هو وصاحبه السي عبد الجبّار ميسور الحال والذي يملك فيلا ومسكن آخر، منذ تزوّج للمرّة الثالثة، أصبح يقضي معظم أوقاته في مسكنه بعمارتهم التي كانت آمنة قبل وصوله. لقد ترك زوجته الأولى وأمّ أولاده في الفيلا، والزوجة الثانية في مسكن قريب من أهلها، أمّا الثالثة فهي غريبة عن المنطقة ولا أولاد لها لذلك اختار أن يقضي معظم وقته معها، هكذا أخبرهم الجار يوسف صاحب المقهى التي اجتمعوا فيها، وأخبرهم أيضا بأنّ السر وراء إحضار السي عبد الجبّار للكلب هو حراسة زوجته الشابّة الفاتنة والوحيدة، لكن كيف يعقل أن يحرسها وهو فوق السطوح وشقة السي عبد الجبار في الطابق الأوّل؟

يتمتم عثمان الإسكافي بأنّ مصدر أموال السي عبد الجبّار مشبوه، يقال بأنّه يتاجر في المخدّرات، وإلّا كيف يعقل أن صار غنيا بين ليلة وضحاها؟

يشمئز عمّي الصدّيق كبير السكان من هذه الثرثرة التي لا تجدي نفعا، ولا تغيّر من واقعهم البائس شيئا، فيتدخّل ليهدّئ من روع السكان المجتمعين، وليدعوهم إلى اتخاذ إجراء واقعي قانوني بتبليغ الشرطة وهي ستتخذ الإجراءات المناسبة. ينتبه موسى إلى عيسى الخضّار يتسلّل من بين الجموع ويغادر المقهى وهو يسحب الباب خلفه، يفكر موسى في جبن الخضّار الذي أغلق الباب خشية أن يصل صوت السكان الغاضبين إلى الشارع، ثمّ تتبادر إلى ذهنه فكرة تنظيم مسيرة مندّدة بوجود الكلب في العمارة، تعجبه الفكرة لدرجة أن رفع يده وطلب الكلمة ليعلن عن فكرة المسيرة بصوت مرتفع وبحماس منقطع النظير. يسود الصمت للحظات وكأنّ على رؤوس الجماعة الطير، ثمّ ينفجر السكان ضاحكين من الفكرة المجنونة، لكنّ ضحكتهم يقطعها صوت دوي باب المقهى يفتح بقوة ليدخل السي عبد الجبّار والشرر يتطاير من عينيه الجاحظتين وقد كشف عن صدره العريض وعضلاته المفتولة تحت قميص أبقى على أزراره مفتوحة، ينتبه موسى إلى عضلات الذراعين أيضا، عضلات مفتولة لا يكاد يرى منهما لون بشرته من كثرة الأشكال التي وشمها على جلده. يزمجر السي عبد الجبّار كقطار وهو يصرخ فيهم: ما به الكلب؟

يسود الصمت، لا صوت يسمع في المقهى، وكأنّها أصبحت خالية.. يمشي السي عبد الجبّار بين الجموع والشرر يتطاير من عينيه وهو يزمجر: قلت ما به الكلب؟

يتوقف أمام حسين النجار، يرمقه بنظرة غريبة، يفهم عيسى بأنّ الخضّار قد قام بالمهمّة وخان الجماعة، يرفع السي عبد الجبّار يده عاليا ويضربها على الطاولة التي يجلس إليها حسين النجار الذي اعتصر وجهه وهو يقول: “الكلب، الله يكثر خيره يا السي عبد الجبار”.

ثمّ يشرع حسين النجار في شرح مدى سعادة سكان العمارة بوجود كلب قوي ووفي يحرسهم وكيف أنّهم اتفقوا على تكريمه نظير جهده في خدمتهم، فقرّروا إنجاز بيت من حطب يقيه الحرّ والبرد مؤكّدا بأنّه سيتولى إنجازه بنفسه في ورشته.

في اليوم الموالي، كان حديث سكان العمارة حول إلى أين وصلت الأشغال بخصوص مسكن الكلب؟

13