مغادرة الأبناء للدراسة الجامعية تترك أثرا نفسيا صعبا على أفراد الأسرة

يؤكد خبراء علم الاجتماع أن مشاعر القلق والهواجس تستمر في تعذيب الآباء والأمهات خوفاً على أبنائهم من المجهول حتى ولو رحبوا بسفرهم لتلقي العلم بعيدا عنهم. وأشاروا إلى أن إتمام الدراسة الجامعية، هاجس عند بعض الأهل، إلا أن تبعاته النفسية على أفراد الأسرة قد تصل حد الاكتئاب خصوصا إذا كان الابن أو البنت أصغر أبناء البيت.
يصطدم بعض الأهل بحقيقة مغادرة أبنائهم للبيت بغاية إنهاء الدراسة الجامعية، بعد أن كانوا لوقت طويل يشاركونهم تفاصيل جزئية في حياتهم فلا يستوعب هؤلاء أن أبناءهم الذين كانوا يعتبرونهم صغارا سيستقلون بحياتهم ولو جزئيا ليبدأوا حياة جديدة يتحملون فيها مسؤوليتهم كاملة.
ورغم أن إتمام الدراسة الجامعية، حلم يراود بعض الشباب وهاجس عند بعض الأهل، إلا أن تبعاته النفسية على أفراد الأسرة قد تصل حد الاكتئاب خصوصا إذا كان الابن أو البنت أصغر أبناء البيت. وهو ما حصل مع والدة الطالبة فاتن الشواشي التي غادرت بيت العائلة في تونس العاصمة لتدرس اختصاص الإعلامية بمحافظة الكاف شمال غرب البلاد.
وقالت نجيبة الكوكي لـ”العرب” إنها لم تستوعب إلى حد الآن كيف أنها أوصلت ابنتها بيدها إلى المبيت الجامعي وهي لن تنسى تفاصيل ذلك اليوم، فقد انخرطت هي وابنتها الوسطى في موجة من البكاء ما دفع الطالبة إلى التفكير في مغاردة المبيت الجامعي والالتحاق بأسرتها لولا أن أختها الكبرى أقنعتها بالبقاء.
وأضافت أنها تصحو كل صباح لتسأل عن حال ابنتها وتتساءل بينها وبين نفسها عن مصيرها لو غادرت ابنتها منزل العائلة كليا، فكيف سيكون حالها؟
ورغم أنها تتصل بها هاتفيا كل يوم وتطمئن على أحوالها إلا أن ذلك ليس كافيا بالنسبة إليها فهي المرة الأولى التي تغادر فيها بيت العائلة وتبتعد عن أسرتها.
ونظرا لطبيعة المجتمعات العربية التي تتميز ببنية متماسكة بين الأبناء والآباء والأجداد أيضاً، يخلف ابتعاد الأبناء عن عائلاتهم نوعا من الأسى في قلوبهم وخاصة بالنسبة إلى الأمهات اللواتي يقضين وقتا طويلا مع أبنائهم. وعادة ما يظل الابن يدور في فلك العائلة ويخضع للسلطة الأبوية حتى بعد التخرج، وفكرة استقلاله بحياته في سن مبكرة والسفر للدراسة بمفرده في مجتمعات غريبة ومختلفة في القيم والمبادئ وبعيداً عن روابط الأسرة يمكن أن تزعج الكثير من الآباء والأمهات.
إتمام الدراسة الجامعية هاجس عند بعض الأهل، إلا أن تبعاته النفسية على أفراد الأسرة قد تصل حد الإصابة بالاكتئاب
وحتى لو رحب الأهل بسفر الأبناء لتلقي العلم ففي النهاية ستبقى مشاعر القلق والهواجس تعذبهم خوفاً عليهم من المجهول بينما سيعاني الأبناء الغربة، واختلاف البيئة والثقافة وستبقى قائمة الوصايا والتحذيرات والإرشادات التي يزودهم بها الأهل يحملونها في القلب والعقل حرصاً على سلامتهم.
وأكدت نزيهة البوسالمي أصيلة محافظة جندوبة شمال غرب البلاد وأم لطالب يدرس بتونس العاصمة أنها تفكر يوميا بمصير ابنها البعيد عنها خصوصا مع اقتراب فصل الشتاء فهو لم يتعود مغادرة منزل العائلة من قبل ولم يتحمل المسؤولية طوال حياته فكيف سيفعل اليوم وهو لا يجيد الطبخ ولا حتى غسل ثيابه.
وتفكر البوسالمي في أن تنتقل العام المقبل إلى تونس العاصمة من أجل أن تكون قريبة من ابنها حتى تشعر بالراحة.
وقالت البوسالمي لـ”العرب” إنه بعد زواج بنتيها وسفر ابنها للدراسة أصبحت تعيش بمفردها ولم تعد تطيق هذه الوضعية وأصبح بيتها بمثابة العش الفارغ.
ويعرف خبراء علم الاجتماع متلازمة العش الفارغ على أنها ليست تشخيصًا سريريًا، بل هي ظاهرة يعاني فيها الآباء من الشعور بالحزن واليأس عند مغادرة ابنهم الأخير للمنزل.
وبالرغم من أن الآباء قد يشجعون أبناءهم بشدة على أن يصبحوا مستقلين، إلا أن تجربة مغادرتهم يمكن أن تكون مؤلمة بالنسبة إليهم. حيث يمكن أن يواجهوا صعوبة في اختفاء أبنائهم فجأة بعد أن كانوا يعيشون برعايتهم في المنزل. وقد يشعرون بالحنين إلى كونهم جزءًا من حياتهم اليومية، بالإضافة إلى مرافقتهم المستمرة لهم.
كما يمكن أن يقلقوا حول سلامتهم أيضًا وما إذا كانوا قادرين على رعاية أنفسهم. وقد يواجهون صعوبة أثناء المرحلة الانتقالية إذا غادر الابن الأخير المنزل مبكرًا قليلاً أو إذا غادر بعد فترة بخلاف ما كانوا يتوقعونه. وإذا كان لديهم ابن واحد أو كانوا مرتبطًين بأبنائهم ارتباطًا وثيقًا، فقد يمرون بأوقات صعبة، خاصة في التأقلم مع خلو المنزل منهم.
وقد أشارت الأبحاث في الماضي إلى أن الأبوين اللذين يعانيان متلازمة العش الفارغ يواجهان إحساسًا عميقًا بالحرمان؛ ما قد يجعلهما عرضة للاكتئاب وإدمان الكحوليات وأزمة الهوية والخلافات الزوجية.

لكن تبيّن الدراسات الحديثة أن متلازمة العش الفارغ قد تقلل من الخلافات التي تنشب في العمل وبين أفراد العائلة، وقد تتضمن العديد من الفوائد التي تعود على الأبوين. إذ عندما يغادر آخر طفل المنزل، تتاح للأبوين فرصة جديدة للتواصل مع بعضهما البعض وتحسين علاقتهما الزوجية وإعادة إحياء الاهتمامات التي لم يكن لديهما وقت لها قبل ذلك.
ولا ينطوي الذهاب والدراسة في جامعة بعيدة على الحصول على شهادة جامعية فقط بل يساعد الشخص في الاعتماد على نفسه أكثر وتطوير مهاراته الحياتية والتعليمية.
هذا يتضمن البعد عن النظام الأسري ولكنه يمكن أن يساعد الشخص على اكتشاف نفسه بشكل أكبر، كما يساعد الشخص على النضوج وتعلم المسؤولية لأنها فرصته الوحيدة في إثبات نفسه. وسوف يتوجب على الشخص أن ينظم وقته، ومصاريفه، ويتعلم كيف يبقي منزله نظيفا، وثيابه نظيفة وأيضا يجب عليه إعداد طعامه بنفسه. والذهاب إلى الجامعة سيكون بمثابة نقطة تحول في حياة المرء، واكتساب هذه المهارات عند التخرج سيكون بمثابة حجر الأساس في بناء حياة ناجحة.
وأظهرت دراسة أن الآباء المغالين في الحرص على أبنائهم ويستمرون في إدارة شؤونهم حتى رغم وصولهم إلى مرحلة الجامعة مثل تحديد المواعيد وغسل الملابس وترتيب الإجازات قد يسببون لهم ضررا أكثر من النفع لأن هؤلاء الأبناء يصبحون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب وعدم الرضا عن الحياة.
ووجدت الباحثة هولي شيفرين من جامعة ماري واشنطن بولاية فرجينيا الأمريكية أن الآباء الذين يهبون دوما إلى مساعدة أبنائهم ويفرطون في الحرص عليهم يؤثرون سلبا على الأبناء في سن التعليم الجامعي لأنه يقوّض حاجتهم للإحساس بالاستقلالية والرغبة في التنافس.

الطيب الطويلي: طبيعة العلاقات بين أفراد الأسرة تتغير بابتعاد أحدهم، وبتحول عواطف الأم إلى الابن المتغرب
وكشفت الدراسة التي قامت بها أن الأبناء الذين لديهم آباء من هذا النوع هم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والشعور بعدم الرضا عن حياتهم وأشارت إلى أن أعداد هؤلاء الآباء آخذة في التزايد نظرا للمخاوف الاقتصادية التي تزيد من قلقهم على فرص أبنائهم في النجاح.
وقالت شيفرين الأستاذ المساعد في علم النفس “نتوقع أن يكون الآباء الذين لديهم أبناء صغار هم الأكثر حرصا لكن المشكلة أن هؤلاء الأبناء كبار بما يكفي للاعتناء بأنفسهم ولا يكف آباؤهم عن الاهتمام بهم”.
وأضافت أنها “تجد آباء يهتمون بشكل مكثف بحياة أبنائهم في سن الجامعة. وهو أمر جديد وآخذ في التزايد. لا يسمح بالاستقلالية وفرصة التعلم من الأخطاء”.
واعتمدت الدراسة التي نشرت في دورية سبرينغر لدراسات الطفل والأسرة على مسح عبر الإنترنت لما مجموعه 297 طالبا أميركيا في سن الجامعة.
وقال الدكتور الطيب الطويلي إنه بعد إتمام المرحلة الثانوية، غالبا ما يبتعد الطالب عن أسرته لخوض حياته الجامعية، حيث تكون الجامعة بعيدة العشرات من الكيلومترات عن سكن أسرته، أو يختار السفر إلى الخارج لتحقيق أحلامه الأكاديمية والمهنية. وهذا الابتعاد وإن كان يقدم للطالب آفاقا اجتماعية وفرصا علمية جديدة، إلا أنه يؤرق العائلات وخاصة الأم التي يبقى بالها متعلقا بابنها.
وأضاف المختص التونسي في علم الاجتماع أن طبيعة العلاقات بين أفراد الأسرة تتغير بابتعاد أحدهم، وبتحول عواطف الأم إلى الابن المتغرب، حيث تتحول غالبا مشاعر الفقد إلى محور لاهتماماتها، ملغية بذلك جانبا هاما من مشاعرها نحو الآخرين المتواجدين فعليا حولها، وقد يتحوّل التنقل للالتحاق بالابن والاعتناء به بين الفينة والأخرى من أهم مشاغل الأم ومسربا آخر لمصاريف جديدة تضيفها على مصاريف دراسة الابن التي تمثل عبئا جديدا على الأسرة لم يكن موجودا في الماضي.
وهذا السلوك وإن يبدو لغالبية الناس عاديا إلا أنه يكشف عن بنية نفسية غير متوازنة لدى الأم المتوسطية فهي تبالغ في فيض المشاعر التي تغدقها على الأبناء بكيفية تجعلها تكبتها ولا تصرّح بها لغيرهم، فيكون خروج أحد الأبناء عن حضن الأسرة بمثابة الصدمة العاطفية التي تعيشها الأم على وجه الخصوص وتبالغ أحيانا في عرضها والتعبير عنها.
وأكد الطويلي أن رحيل الأبناء يعتبر في حد ذاته ظاهرة صحية تكشف عن نجاح الابن أو البنت والرغبة في خوض معترك الحياة بعيدا عن العائلة، لذلك لا يجب أن نشجع الأم على المبالغة في عيش تجربة مغادرة الأبناء على أنها تجربة فقد، بل عليها أن تعيشها بشكل أقل عاطفية وأكثر عقلانية.