مسرح المتفرج الصغير التزام دائم بالقضايا الكونية

"راعي الصحراء" مسرحية دمى تنبه إلى مخاطر الصيد العشوائي و"المنظم" على البيئة وأنواع نادرة من الحيوانات.
الخميس 2021/01/21
متعة الحكاية وشاعرية المكان

يحصر الكثير من المختصين المسرح في بيئة المدينة، ويعتبرونه فنا مدينيا بالضرورة. ولكن، مع تطور الفن المسرحي في فضاءات ومناخات أخرى خارج حدود المدن، صار بالإمكان الحديث عن مسرح خارج المدينة مثل مسرح الصحراء. ولكن هل لزاما أن يكون مسرح الصحراء خارج حدود العلبة الإيطالية؟ أم يمكنه أن يكون داخلها ولكن بتقنيات خاصة؟ هذا ما يجيبنا عنه بشكل غير مباشر العرض المسرحي التونسي الموجه للأطفال “راعي الصحراء”.

منذ أيام قليلة عرض مركز الفنون الدرامية بمدينة تطاوين (جنوب تونس) المسرحية العرائسية (مسرحية دمى) “راعي الصحراء”، في باكورة إنتاجه الموجّه إلى الأطفال.

هذا العمل الذي أجمع النقاد والمتخصصون على تميزه، جاء من تأليف علي اليحياوي وإخراج عايدة جابلي، يطرح موضوع الصحراء كفضاء بيئي تعبث به أيادي الإنسان عبر تجاوزات تكون آثارها خطيرة، مثل الصيد الجائر، بالإضافة إلى كونها حقلا معرفيا بامتداداته الجمالية والتأملية والشعرية.

رسالة عبر الدمى

امتزجت في هذا العرض متعة الحكاية ورشاقة السرد بشاعرية الحوار وجمالية المشهد، وذلك من خلال الإتقان الذي ميز صناعة الدمى وتحريكها، ما ينمّ عن خبرة اكتسبها هذا الفن المتجذر في تونس منذ عقود وصار ينافس مسارح عريقة في أوروبا وآسيا.

وفي هذا الصدد قالت الكاتبة مفيدة خليل عن محركي الدمى الذين أبهروا المتفرجين الصغار والكبار على حد سواء، إنهم “يصنعون الفرجة ويسرقون الإعجاب والإقناع، حركوا العرائس بكل مهارة وحملوا الأطفال إلى عوالم من الخيال، نقدوا وشاكسوا وعرّوا بؤس البعض في اختراق القوانين فكانوا صوت الصحراء على الركح”.

الدمى صممها وأجاد في دقة تفاصيلها الفنان الحبيب الغرابي، ابن الجنوب التونسي الذي كسب من الصحراء مهارات عديدة. عشق الرمال فصنع منها أجمل المشهديات مثل “مشهدية الرمال المتحركة” التي مثلت تونس في أوروبا وأفريقيا.

والغرابي فنان تشكيلي متعدد المواهب، لا يرضى بغير الإبهار والسحر، فكلما انكب على عمل إبداعي كانت نتيجته رائعة، وفي مسرحية «راعي الصحراء» تحضر بصمته في العرائس المصنوعة بكل دقة لتبدو وكأنها حقيقية حين تتحرك أمام المتفرج.

شعرية الصحراء

عرض دمى يبهر الصغار والكبار
عرض دمى يبهر الصغار والكبار

حرّك الدمى كل من الممثلين عبدالسلام حميدي وحسان مري ورياض الرحموني وعائدة جابلي وبلقيس مصباح، وأشرف على تقنيتي الصوت والإضاءة، شكري قمعون وإبراهيم دقنيش، أما الملابس فصممتها أسماء حمزة، مع توضيب عام لعبدالله الشبلي.

“راعي الصحراء” مسرحية دمى تنبه إلى مخاطر الصيد العشوائي و”المنظم” أيضا من طرف سماسرة ووسطاء يستقدمون أثرياء عرب وأجانب لقنص أنواع نادرة من الغزلان والطيور، ما يهدد بانقراضها ويفقد البيئة توازنها.

هذه الرسالة التوعوية حملتها جماليات لافتة على مستوى الشكل والمضمون، وأكدت أن مسرح المتفرج الصغير هو التزام دائم بقضايا كونية تكرس وعي الطفل بضرورة الحفاظ على البيئة، وذلك بأسلوب بعيد عن المباشرة والطرق التعليمية المنفرة، حيث عمد صناع العمل إلى تحفيز ذاكرة الطفل وإغناء خياله عبر جماليات تقارب الواقع وتتفوق عليه.

تظهر شعرية الصحراء في كل مشهد من المسرحية حتى في تلك الفواصل المظلمة، بالإضافة إلى التسجيلات الصوتية، ما يصحح المفهوم النمطي السائد عن الصحراء من كونها مرتبطة بالوحشة والفراغ والخوف.

تذكرنا هذه الشاعرية التي صاغ بها علي اليحياوي نصه بتلك الغنائية التي طبعت روايات الكاتب الطوارقي الليبي إبراهيم الكوني، ذلك أن الأخير يمعن في استنطاق الصحراء ومحاورتها فيذهب بها بعيدا حتى تصبح شخصية مستقلة بذاتها بل وتمسي فضاء معرفيا تتشكل داخله منظومة فكرية وخطاب شعري شديد الخصوصية.

المسرحية تظهر شعرية الصحراء في كل مشهد منها
المسرحية تظهر شعرية الصحراء في كل مشهد منها

وفي هذا الصدد، يقول مؤلف المسرحية “أشعر بأنني مسكون بالصحراء، يعني لست من يسكن الصحراء ولكن الصحراء هي التي تسكنني، لأن في الصحراء فقط يتجسد مبدأ وحدة الكائنات”.

ويستطرد اليحياوي عاشق الصحراء قائلا “في الصحراء تعلمت أن تكون الشجرة، أصغر شجرة أو أصغر نبتة قرينا لي، في الصحراء أيضا تعلمت تحريم أن تنتزع عودا أخضر، في الصحراء تعلمت أن لا أفقس بيضة طير”.

في المسرحية تجتمع مكونات الحياة في الصحراء، أي الإنسان والحيوان (الفنك والأفعى والإبل والورل والعقرب والغزال) والنباتات (الشجيرات الصغيرة والأشواك) في عمل مسرحي واحد يحاكي الحياة في الصحراء والخطر الذي يتهددها، وخاصة الغزال.

 كل هذه الأطروحات والأفكار ذات المضمون الإنساني، حملتها قوالب جمالية في غاية الإتقان وصل حدّ الإبهار من خلال تأثيث فضاء سينوغرافي متكامل ومتناغم العناصر، فشاهدنا كل ألوان وأطياف الصحراء بكل تقلباتها من خلال إضاءة ارتكزت على اللون الأصفر ومشتقاته مع انتقالات سلسة في الديكور واستعمالاته المتعددة.

وقد اهتم العمل بالتفاصيل والدقة البالغة في التصاميم مستفيدا من تقنيات بصرية تقترب من السينما في جانبها التوثيقي كمشاهد الصراع بين حيوانين في لغة تنقل ما تخفيه الصحراء من ألغاز وخفايا وحالات بوح تلامس الشعرية وتتماهى معها أحيانا.

أما الموسيقى فكانت عنصرا أساسيا في العرض، حيث تحمل بدورها الطفل إلى تفاصيل الصحراء، صفير وفحيح يشبه فحيح الأفاعي، والأفعى تحضر في العرض تتحرك وتصارع لأجل البقاء وتصنع موسيقاها هي الأخرى، ونقرات تبدو كوقع أقدام الجمال على الرمال وهي تجري وتقاوم العاصفة، والجمال صنعت بدقة وأثّثت للفعل الدرامي التصعيدي في المسرحية.

ولم يغفل العمل البعد الفولكلوري وتلويناته على الساحة التونسية مثل لباس الراعي المصنوع من صوف الأغنام أو وبر الجمال، بالإضافة إلى قطع وأكسسوارات كثيرة أخرى.

يحيلنا عرض “راعي الصحراء” إلى سؤال معرفي يتعلق بمدى تطويع البيئة الصحراوية والريفية عموما، للمسرح الذي يصرّ البعض على اعتباره فنا مدينيا، ولا علاقة له بالبيئة الصحراوية، في حين أن كل عناصر التجمعات الفرجوية متوفرة في هذه البيئة الغنية والساحرة.

14