مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي الفكرة التي أصبحت منارة

التعاون مع مصر والإمارات أسس لأول معمل متكامل للتوثيق في الأردن.
الأحد 2024/09/29
توثيق تاريخ الأردن

من المعروف أن أمة بلا توثيق هي أمة بلا معرفة وبلا هوية، ومن هنا تأتي أهمية إنشاء قواعد البيانات التوثيقية، والتوثيق مختلف عن الأرشفة، إنه مجال أوسع وله شروط مختلفة، لا يكتفي بالرصد والتدوين والحفظ، بل له وظيفة أوسع، وتحتاج إلى جهود مشتركة، ومن هنا تأتي ضرورة رعايته في مؤسسات رسمية.

الكتابة التوثيقية هي المنارة التي يستطيع معها العقل أن يجتاز الفراغات المعرفية، حيث أن هنالك نظرية تقول إنه لا يوجد ما يسمى فراغا كاملا، فكل فراغ يجب أن تتم تعبئته إما بالحقيقة أو بالتدليس والكذب، وفي مجال تاريخ الشعوب وأحداث الأمم هنالك من كتب تاريخه الخاص عن الحُكم، أو التاريخ الاجتماعي أو الاقتصادي وهناك من كتب تاريخه السياسي والوطني، حتى لا يتركه لعبث الآخرين.

الكتابة التاريخية التوثيقية توجب اتباع معايير في غاية الأهمية، وهي أن المشتغل في مجال التوثيق التحليلي يجب عليه الكتابة من خلال الإدراك بعين العقل لا بالأذن في ما يخص الأحكام وإصدارها ونشر معلوماتها. ومن ضمن أهم المعاير فيها بأن على من يشتغل في هذا المجال أن يلتزم بقواعد التوثيق التي تتميز عن سرد الأحداث التاريخية والمذكرات بمعايرها المحدودة القابلة للشخصنة، والبطولات، والأحلام، والقصصية في السرد.

الحياد إيجابي وسلبي

توثيق للأجيال القادمة
توثيق للأجيال القادمة

يخضع التوثيق التحليلي لمعايير متعددة قد يكون من أهمها الإحاطة بالجغرافيا، والثقافة، وربط الأحداث، ومعرفة التواريخ والنتائج، وفهم القواعد الناظمة لاتخاذ القرارات، ووعي وإدراك وفهم للمصالح والحقوق والواجبات، ومستودع ذهني حاضر من المعلومات والمعارف، مع الجزم بأن موضوع الحياد هو موضوع شخصي، فليس الحياد دائما محل حمد وتقدير، ففي بعض الأوقات التي تستلزم إيضاح الحقائق وتبينها يكون الحياد سلبيا، لا بل يكون جريمة بحق المعرفة والحقيقة.

أن تكتب تاريخا بشكل علمي أكاديمي، ربما هو أمر طبيعي يمكن أن يقوم به أيّ مؤرخ أو مهتم بكتابة الأحداث التاريخية، وجهودهم مشكورة محترمة ومقدرة، لكن أن تعمل على تقديم التوثيق من خلال التحليل للأحداث التاريخية السياسية، بالأخص من خلال المقارنة وتعدد روايات هذا التاريخ بشكل يقدم أحداثه كما كانت بتجرد أولا، وثانيا بفهم لهذه الأحداث وربطها مع الواقع مع مراعاة التأثير.

كل ذلك لأن القرار والحكم عليه يخضع للرغبة، والقدرة، والسيطرة، والإمكانات، والتقبل، والبيئة والظروف، وعوامل القوة، والممكن، والمستحيل، والمقاومة، والثقافة الجمعية، والأهم المعلومات، لأن توفر المعلومات هو الذي يمكّن صاحب القرار من التكيف والإدراك وصناعة القرار المناسب، وهذا هو الشيء الأهم والأصعب، لأن تقديم التاريخ – أيّ تاريخ – ربما تتدخل في نسج حبكته مسائل الهوى، والرغبات، والميول، والاسترضاء، والطموحات، وحسابات الثواب والعقاب، الأمر الذي ربما يؤدي إلى فقدان أو تجاهل بعض الدلالات والحقائق والمواقف التاريخية المهمة عن قصد أو عن غير قصد.

فعندما يتم الحديث عن التوثيق لتاريخ الأرض والإنسان، ومسيرة البناء والعمران، والفكر، ومراحل تطور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما جاءت بالوثائق والصور متعددة المصادر، وضمن تحليل وليس استهداف وتضليل، فهذا يعني أننا أمام حقائق لا تحتمل الإنكار أو التشكيك إلى حد ما، لأنه لا يكون هناك ثمة مجال لتدخل الأهواء والميول وغيرها من مغيبات الحقائق في تحديد شكل الحكم النقدي محل البحث،  لاسيما وأننا نكون أمام وثائق تؤرخ وتقدم لفكر صاحبها، وهي التي يمكن أن تساعد الكاتب والمحلل في فهم عقلية وثقافة وفهم صاحبها، وتُعرض كما هي دون تدخل في مضمونها أو حتى شكلها، ولا يجوز بكل أمانة علمية أن تقدم من خلال تقيم ضمير أو نية صاحبها.

“لقد رحنا ندرس التاريخ أحيانا ونكتبه كما يوافق أهواءنا، ويدغدغ عواطفنا، لنذهب مزهوين بما وصلنا إليه في فترة ماضية، وبدل أن نحلل وندقق لنفهم، نحاول أن ننتقي من الروايات ما يناسب، بل ونقرأ النصوص ونكسبها المعنى الذي نريد لا الذي تحمله، وحين نواجه الأزمات نتساءل، كما تساءل مؤرخ فرنسي بعد سقوط باريس: هل خاننا التاريخ؟”، أعتقد أن هذه الحالة تجيب على مكنونات داخلية كانت وما تزال محيرة للبعض.

يقول غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير “من يستطيع إيهام الجماهير يصبح سيدا لهم، ومن يحاول إزالة الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم”.

ثم يأتي فريدريك نيتشه ليؤكد صحة قول غوستاف لوبون ويقول “لا تقع ضحية المثالية المفرطة وتعتقد بأن قول الحقيقة سوف يقربك من الناس، الناس يحبون ويكافئون من يستطيع تخديرها بالأوهام، منذ القدم والبشر لا يعاقبون إلا من يقول الحقيقة، إذا أردت البقاء مع الناس شاركه أوهامه، الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل”.

مركز التوثيق

التوثيق لا يعني الأرشفة
التوثيق لا يعني الأرشفة

قبل خمسة وعشرين عاما، كنت في دورة تدريبية في مصر برفقة مدير متحف الحياة السياسية لعهد الملك المؤسس الأستاذ الراحل عزام محمد أبوعزام الدباس، حيث تمت دعوتي كمختص في الأرشفة والتوثيق، ورافقني لحضور دورة تدريبية متخصصة وشاملة في موضوع التوثيق وترميم الوثائق وإدارة المتاحف والتعامل مع نشر المعرفة الحضارية، بصفتي رئيسا لوحدة التوثيق والأرشفة في متحف الملك المؤسس، وكذلك الاطلاع على تجربة الصحف المصرية في أرشفة الوثائق على الميكروفيلم، كانت مدة الدورة 21 يوما في جمهورية مصر.

ولمصر في وجداني مكانة خاصة فمصر الكنانة، مصر العروبة، مصر القومية والإبداع، مصر الحضارة أم الدنيا، عامود ظهر العرب ومرتجى آمال الأمة، هذا البلد الذي يستقر حبه في وجدان أي عربي، شعبه المحب الأصيل الحضاري صاحب حضارة النيل والأهرام والمساجد والكنائس والمعابد، حضارة البشرية، المبدع والمتميز، بلد الجامعات والمعاهد محتضن الأزهر ومنتج المعرفة بما يتم طباعته من الكتب والإصدارات.

كانت هذه الزيارة بداية تأسيس علمي أكاديمي حقيقي لي في التعامل مع موضوع التوثيق، وبما قدمه الأصدقاء المصريون لي من دعم ومساندة في التوجيه نحو المصادر والاجتهاد في رفع القدرات للدخول في معمعة التوثيق التحليلي ونشر المعرفة، ومنهم أخي وصديقي وزير الثقافة المصري الدكتور محمد صابر عرب، الذي كان وقتها مسؤولا عن دار الكتب والمحفوظات المصرية، والتي تعرفت فيها على أعمال المجلس الدولي للأرشيف، والفرع العربي للأرشيف وأصبحت عضوا فيه، حيث لم أترك مؤتمرا أو ندوة أو تجمعا منذ العام 2001 إلا وكنت حاضرا فيه إما بحضور واستفادة، أو بتقديم ورقة عمل، أو مشاركة علمية وتوثيقية، وفي كل الدول التي عقد الفرع العربي للمجلس الدولي للأرشيف اجتماعا فيها أو دورة في عالمنا العربي أو في أوروبا.

سابقا رحنا ندرس التاريخ أحيانا ونكتبه كما يوافق أهواءنا ويدغدغ عواطفنا، لنذهب مزهوين بما وصلنا إليه

 تلك الدورة التي فتحت لي آفاق التعرف برجالات مصر ومفكريها وكتابها أمثال عماد أبوغازي وعبدالواحد النبوي وصبري العدل، وهدى جمال عبد الناصر، وعبدالوهاب المسيري والوزير فاروق حسني وصلاح فضل ومحمد حسنين هيكل، وفتحي صالح إضافة إلى آخرين كثيرين من أبناء مصر العظيمة.

من متحف الحياة السياسية لعهد الملك المؤسس بدأت مسيرتي في العمل الجاد، ثم كانت النقلة النوعية لي بعد كل هذه الخبرة، بأن يتم انتدابي للعمل في قيادة الحرس الملكي الخاص “بالصفة المدنية” كمنتدب لإنشاء مركز التوثيق الملكي العام 2002، بعد أن عرضت فكرتي ومشروعي على قائد الحرس الملكي وقتها العقيد أحمد على عايد أبوسويلم، هذه الشخصية المثقفة والريادية الذي تلقف الفكرة وساندها بكل قوة واقتدار (إبّان عمله في قيادة لواء الحسين بن علي قبل تسلمه مهام الحرس الملكي الخاص)، وعمل كل ما يلزم من أجل تسهيل مهمة إنشاء المركز الذي يهتم بتقديم صورة جديدة قائمة على التوثيق والدراسات باسم الحرس الملكي الخاص، وهذه النقلة مكنتني بأن أطّلع أكثر وأكثر على سلوك العائلة الهاشمية، وأتعلم الانضباط المعرفي، والحس الأمني من العسكريين المهرة من ضباط الحرس الملكي، وقد كان لي من خلالها فرصة لتنفيذ عدد من مشروعات التوثيق، التي خُتمت برسالة شكر مميزة من رئيس الديوان الملكي يوسف الدلابيح على مجهوداتي في التوثيق الهاشمي العام 2004.

بعد كل هذا الكم من الدورات والتدريب والمشاركات والاطلاع، بالتحضير وبالتعاون مع قائد الحرس الملكي العميد  أحمد علي عايد، بعد أن أصبح لدينا كم كبير من العلاقات وأصبح عندي شخصيا ملف وأرشيف جمعته من العديد من الدول والشخصيات الوطنية وأهمها من المؤرخ سليمان الموسى، الذي لم يبخل عليّ في الدعم والتزويد بالصور عن الوثائق.

وكذلك ساعد أصدقائي في العالم العربي، وخصوصا في مصر، عبر تقديمهم أيّ وثيقة أو معلومة تخص الأردن أو الملك عبدالله الأول أو العائلة الهاشمية، لنقوم بالتحضير لمشروع وملف إنشاء المركز، ليكون ضمن الرعاية الملكية والحكومية، فقام قائد الحرس الملكي بعرض موضوع إنشاء مركز التوثيق الملكي على الأمير غازي بن محمد المستشار الخاص للملك عبدالله الثاني، بعد أن تمت دعوته لزيارة المركز والاطلاع على مشروع التوثيق الوطني، وبعد الزيارة التي امتدت لساعات، وجه بأن هذا العمل كبير ورائع ومميز ومتعدد، وفي حاجة إلى أن يكون تحت رعاية ودعم الحكومة، لأنه يحتاج إلى موازنة وتدريب وكادر، وأيضا إلى فتح أبواب الوثائق الرسمية للباحثين، ليقدم هذا المركز ما يطلب منه لخدمة الحقيقة والتوثيق، فاعتذر الأمير غازي بن محمد عن رئاسة مجلس أمناء المركز، الذي كان سيصبح فيه قائد الحرس الملكي المدير العام، وسأكون فيه أنا المدير التنفيذي، لكي أتفرغ لكل ما يمكن من الجمع والتوثيق والدراسات والترميم.

الذكرى العشرين

مركز التوثيق الملكي الأردني يعتمد على معايير علمية كما يراهن على الابتكار والإبداع الوظيفي في العمل

خلال فترة التأسيس للمركز قمت بتوقيع مذكرة تفاهم مع دار الوثائق المصرية، ثم مع الأرشيف برئاسة الدولة في الإمارات، ومع مركز جمال عبدالناصر بمصر، ومع جامعة الدول العربية، وكنت أعمل على التنسيق مع مركز جمعة الماجد للوثائق في دبي، حيث كنت قد تعرّفت على جمعة الماجد من خلال صديقي وأخي السفير سالم العقروبي السويدي الذي رتب لي لقاء مهما معه، وأسس هذا اللقاء لاحقا إلى إنشاء أول معمل (مستشفى) متكامل للتوثيق في الأردن.

 ثم عرض قائد الحرس الملكي الموضوع على الأمير رعد بن زيد كبير أمناء الملك، خلال زيارته لنا في القاعة الهاشمية بالحرس الملكي، حيث أبدى الأمير كل الشكر والثناء على المجهود المبذول دون وجود موازنة مالية، ولكنه أيضا اعتذر عن رئاسة مجلس أمناء مركز التوثيق الملكي الهاشمي التابع للحرس الملكي بسبب مسؤولياته المتعددة.

 قمت أنا وقائد الحرس بطباعة كتيّب تعريفي عن المركز، وكنا نقدمه إهداء لمن يشرّفنا في المركز، حيث كان موضوع التوثيق يطرح بشكل عفوي، لأن أغلب الناس كانت تخلط ما بين مفهوم التوثيق والأرشفة.

ثم شاءت الأقدار أن يتم عرض الموضوع على الأمير علي بن نايف، الأمين الخاص للملك عبدالله وقتها، الذي وافق على رئاسة مجلس الأمناء، وكان نعم العون لنا في تنفيذ هذا المشروع “وما يزال منذ عشرين عاما رئيسا لجل أمناء المركز”، هذا المركز الذي يأتي انسجاما مع توجيهات الملك عبدالله في الاعتماد على الابتكار والإبداع الوظيفي في العمل ومنح أكبر مساحة للإنسان الأردني المميز لتقديم مشاريع العمل والإنجاز، وتم التحضير بعدها لنظام المركز، الذي قمت رفقة المستشار القانوني في الديوان الملكي الأستاذ عصام عبدالرؤوف الروابدة، بتحضيره وإرساله إلى رئاسة الوزراء وصدر نظام المركز العام 2005.

مناسبة كل هذا الطرح هو الذكرى الخامسة والعشرين لإطلاق فكرة إنشاء مركز متخصص في الأردن يعنى بالتوثيق، كانت فكرة وإيمانا أطلقتها وعملت عليها وأصبحت اليوم منارة علمية ووطنية، فقد انطلقت تحت مظلة مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي مديرا عاما للمركز، ليس فيه موظفون غيري فأنا كنت الموظف الأول والوحيد في المركز، فعملت على تدريب أردنيين على مهنة جديدة في الأردن هي مهنة الترميم والتوثيق ليصبح المركز اليوم منارة من منارات العلم والمعرفة والتوثيق، أطلقت خلالها العنان لمشاريع التوثيق الوطنية التي سجلت في العالم بأنها مشاريع عالمية نفذت بكل كفاءة واقتدار وتميز وبأيد عربية أردنية صميمة، وليصبح هؤلاء الشباب اليوم من أفضل المرممين والموثقين في العالم.

اليوم مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي واحد من أهم الإنجازات الوطنية وسيحتفل العام القادم بمرور 20 عاما على قرار التأسيس الملكي الرسمي في العالم العربي. عندما تكون الفكرة حقيقية وذات بعد علمي، وتقدم منتجا مفيدا ووطنيا للمجتمع، تنجح بكل تأكيد مع الدعم الرسمي والمثابرة والعمل. مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي اليوم منارة وطنية معرفية في زمن صناعة التفاهة وسيادة التفاهة.

10