مخاطر تعليم اللغات في الصغر أكثر من فوائدها

يحرص عدد كبير من الأسر في المجتمعات العربية على أن يتعلم أبناؤها منذ الصغر الحديث بأكثر من لغة، لكن تتوالى تحذيرات الخبراء من خطورة تلقين الأطفال كلمات وجمل من لغات متعددة بغية تطوير مهاراتهم، وذلك لما لهذه العملية من تأثير على هوية الطفل وأدواته الحسية وقدراته على اكتشاف الواقع. والخطير أن دراسات حديثة أشارت إلى وجود مخاطر على قدرات الطفل الحسية مستقبلا عند تعلمه العديد من اللغات الأجنبية مبكرا.
لم يكن الاهتمام بتعلم لغة أجنبية مثل الإنكليزية والفرنسية والاسبانية، ظاهرة جديدة، لكنها قضية جدلية ترسخت عبر عقود، ويناقش البعض بين أهمية تعلم لغات العصر التي تفتح مجالات للتطور السريع وتضمن مستقبلا باهرا للأجيال الجديدة، وبين آخرين حذروا من خطورتها على انتشار التعامل باللغة العربية بين أفراد الأسرة.
وأظهرت دراسة أجراها باحثان كنديان على تلامذة يتحدثون الإنكليزية والفرنسية في مدرسة بمونتريال منذ حوالي عقدين، أن هؤلاء الأطفال فاقوا أقرانهم الذين يجيدون لغة واحدة في اختبارات تتطلب معالجة ذهنية والتعرف إلى نماذج بصرية.
لكن في السنوات الأخيرة، ظهرت شكوك حول مميزات إجادة الأشخاص للغتين. وتعرضت الدراسات القديمة للنقد بسبب عيوب تتعلق بتحيز الاختيار ونقص الفرضيات الواضحة والقابلة للاختبار، فضلا عن ضعف تعزيز الهوية.
وبدأ العلماء يرون أن إجادة الطفل للغتين ليست حلا مثاليا لتربية سليمة، وأن افتقار الطفل لمشاعر الانتماء والتفاعل والاندماج مع الأسرة والمجتمع له تداعيات خطيرة مربكة للطفل والأسرة لاحقا، وقد تكون لذلك تأثيرات سلبية على تعلم اللغات نفسها بعد أن يصبح الطفل لا يجيد لغة محددة في العموم.
الجديد في أزمة تعلم لغات أجنبية، هو التركيز على تعليم الطفل في المهد ومع بداية نطقه، فيسعى الأب والأم إلى تلقينه كلمات وتعليمه أحرف غير عربية إلى جانب كلمات باللغة الأصلية بحكم المنشأ، ليصبح الطفل وهو في الثالثة أو الرابعة من عمره يتكلم لغة متقطعة من جمل بعضها عربي والآخر أجنبي.
وتدافع منى أبوالحسن، والدة أحد الأطفال في مصر، عن أحقيتها في تعليم أبنائها لغة أجنبية، قائلة “طفلي سيتعلم اللغة العربية مجبرا عند دخوله المدرسة والاحتكاك بزملائه، بالتالي لا خوف على العربية من التراجع”.
وتضيف أبوالحسن لـ”العرب”، “إننا نعلم أولادنا لغات أخرى منذ الصغر، لأن التعلم في هذه السن أسهل وأسرع، وسيجيدون اللغة الثانية بطلاقة عندما يكبرون، فيصبحون عند بداية حياتهم العملية من متعددي المهارات الأساسية”.
افتقار الطفل لمشاعر الانتماء والتفاعل والاندماج مع الأسرة والمجتمع له تداعيات خطيرة مربكة للطفل والأسرة لاحقا
وحتى مطلع القرن العشرين، كانت الثنائية اللغوية أو استخدام لغتين بنفس التمكن، مسألة تحظى بسمعة سيئة لارتباطها بالاحتلال، ما يعني القبول به والتطبيع معه.
وأوضح محمد رأفت أستاذ اللغات الشرقية بجامعة حلوان في جنوب القاهرة، أن اللغة في العموم مرتبطة بالضرورة، فالطفل يتلعثم ثم يحاول تعلم الكلام لأنه يحتاج إلى التعبير عن نفسه واحتياجاته، هنا تصبح اللغة حاجة أساسية، لكن تعلم لغتين في تلك الفترة له جوانب سلبية لأنه “يخلق تشويشا في عقل الطفل الصغير”.
وأشار لـ”العرب” إلى أن الطفل في مراحل عمره الأولى يبدأ في تكوين هويته وإدراك ما حوله من صفات وأشكال اجتماعية وأسرية، ويتعرف على كل ما حوله بحواسه الخمس في البداية مثل أمه وغرفته وبعدها بيته وينتقل ليتعرف على أشكال وروائح وملمس ما حوله، بعد ذلك يبدأ مرحلة جديدة بالاستعانة باللغة كحاسة مهمة للتعرف على من حوله.
وتتواتر دوافع أولياء الأمور نحو تلقين صغارهم كلمات أجنبية بين رغبة لضمان مستقبل أفضل واكتساب مهارات حياتية وإظهار بُعد اجتماعي معين، ويبقى ضغط المدارس والحضانات الخاصة هو الذي حول المسألة من ظاهرة إلى واقع.
وقال هشام سعيد، موظف بأحد البنوك المصرية الخاصة لـ”العرب”، إن ضعف التعليم في مصر تسبب في ظهور مدارس جديدة، باهظة المصاريف وتضع تعقيدات لقبول الطفل، وأحد تلك الشروط أن يمتلك الطالب عند دخول عامه الأول بمدرسته حدا أدنى من الإلمام بلغة أجنبية إلى جانب العربية. وتساءل كيف يمكن لطفل في الرابعة من عمره أن يتحدث لغتين عند دخوله المدرسة، وإذا كان سيتقنهما في أعوامه الأولى، ما هو دور المدرسة في المراحل التمهيدية؟
وتجعل الضغوط المفروضة على الأسرة من قبل المدارس الدولية الكثير من أولياء الأمور يحرصون على تعليم أولادهم أساسيات اللغة الإنكليزية والفرنسية والتحدث معهم بها لاجتياز امتحان القبول في المدرسة.
وتزداد المسألة صعوبة مع تحول اللغات الأجنبية إلى موضة، كتعلم اللغة الألمانية، إذ يعتقد البعض أنها قد تصبح لغة أساسية في المستقبل وتفتح فرصا متعددة في مجالات الصناعة والهندسة والاقتصاد عموما، تضاف إلى ذلك سهولة التعلم المجاني في الجامعات الألمانية لمن يجيدونها.
ولفتت منى حسام، أم لطفلين، إلى أنها تريد أن تضمن لأبنائها مستقبلا أفضل، وتعلم لغة جديدة وغير منتشرة مثل الألمانية يفتح آفاقا أوسع.
وقالت لـ”العرب”، “بالطبع لا أحد منا يعرف الألمانية، وأصبحنا مجبرين على إلحاق الطفلين بحضانة خاصة في حي الدقي بالقاهرة لتعليمهما أساسيات اللغة الألمانية في الصغر كي يمكن قبولهما في المدارس الألمانية التي اجتاحت مصر فجأة، وهي مدعومة من الحكومة في برلين”.
وتشعر حسام بالسعادة عندما تسمع ابنها يتحدث بالألمانية، ويستخدم جملا كاملة من اللغة الأجنبية في محادثاته اليومية، لكنها تواجه مشكلة أنها لا تفهم ما يقول، لأنه بات يستسهل استخدام الألمانية عن العربية ويقوم بالدمج بين كلمات من اللغتين معا في جملة واحدة.