محمد خضير يقاوم إغراء الرواية بكتابة الشذرات

"كراسة كانون" تخطيطات لوجوه على ضوء فانوس قديم تجسد أهوال حرب الخليج الثانية وتداعياتها وفظائعها.
الاثنين 2020/05/18
رؤية خاصة

إن التقسيمات الأجناسية للأدب والفنون على قدر ما وفرت الدقة والتماسك للأعمال الإبداعية والنصوص النقدية التي تقاربها، بقدر ما ساهمت في خلق نوع من الانغلاق التقني، وهو ما تجاوزه العديد من الكتاب والمبدعين بالمزج الواعي بين الفنون، وخلق توليفات جمالية من مختلف المشارب سواء في جنس أدبي واحد مثل الرواية، أو في نصوص وأعمال مفتوحة على التأويل.

يدوّن ناشر كتاب “كراسة كانون”، للقاص العراقي محمد خضير، في غلاف الطبعة الثالثة الصادرة عن دار الرافدين في بيروت حديثا، قائلا “على قارئها أن يخلد إلى صمته ووحدته إلى جانب شمعة وموقد.. وأن يقارب نصوص ‘الكرّاسة‘ بخشية عصفور بلّلته قطرات المطر الأسود الذي انهمر على البقعة المستهدَفة بالقصف الجوّي؛ أيْ، باختصار، عليه أن يفرغ من هذه المهمّة على عجل، فما يقرؤه تخطيط لرواية لا رواية كاملة”.

يتجدّد مع صدور هذه الطبعة من “كراسة كانون” السؤال القديم: ما الذي يدفع كاتبا مبدعا مثل محمد خضير، أثبت جدارة كبيرة في القصة القصيرة، واحتل مكانة مرموقة فيها على الصعيد العربي، إلى الاستجابة لإغواء الرواية؟ (على افتراض أن كتابه رواية من الناحية التجنيسية)، هل لأنه سلّم بأنها باتت تستحوذ على باقي الأجناس الأدبية في عصرنا الراهن، وتفرض نفسها على المشهد الثقافي، منتزعة من الشعر صفة “ديوان العرب”، أم أنه كتبها من باب التجريب والتنويع أسوة بقصاصين آخرين؟

مونتاج سردي

في الواقع، يصعب التكهن بإجابة مقنعة أو حاسمة تسوّغ دوافع هذه الاستجابة، والسؤال يجب أن يوجَّه إلى محمد خضير، فهو أجدر من غيره بالإجابة عليه. لكن تمكن الإشارة إلى نقطتين تتعلقان بفن الرواية سبق له أن تطرق إليهما، الأولى وردت في كتابه “السرد والكتاب”، الصادر ضمن سلسلة كتاب مجلة دبي الثقافية سنة 2010، وفيها يقول إنه لم يؤلف غير كتاب واحد ينتسب بصعوبة إلى فن الرواية (يقصد “كراسة كانون”)، وسيحتل محور انشغاله بنظريات هذا الفن.

 أما النقطة الثانية فكانت إجابة على سؤال طُرح عليه حول سبب عدم محايثة تجربته السردية الطويلة لمحوري الرواية والقصة القصيرة جدا، في حوار أجري معه ونُشر في الملحق الثقافي لإحدى الصحف العراقية سنة 2014، وقال فيها “هدفي الأدبي صناعة نصوص وليس توظيف أنواع أدبية، لكنني عموما أميل إلى المقطوعات القصيرة، وقد لا أكتب رواية إلا ضمن هذا النظام من المقاطع المتفرقة، بل إني أفهم العمل الطويل على أساس هذه التجزئة والتقطيع (المونتاج) السردي.. هناك أكثر من حل لمقاومة إغراء الرواية. النص الجامع أو المجاور أو العابر واحد من هذه الحلول”.

مزاوجة بين الزمن التأريخي والزمن الفلسفي
مزاوجة بين الزمن التأريخي والزمن الفلسفي

كتب محمد خضير “كراسة كانون” مجسدا فيها أهوال حرب الخليج الثانية عام 1991 وتداعياتها وفظائعها، واستطاع أن ينقل رؤيته عبر التفاعل والتعالق، والتعبير بتصوير أشياء خيالية أو صور مخزونة في الذهن، وإعادة صياغتها، وأن يوازي بين الخطاب التشكيلي المتمثل بتخطيطات الفنانين غويا، بيكاسو، هنري مور، جواد سليم وفائق حسن، والخطاب اللفظي عبر صور واقعية ينقلها للقارئ من أحداث الحرب؛ مستبدلا الصورة الواقعية بالصورة الفنية، في ضرب من الهندسة والدمج بين الأشكال، ومعتمدا على فرضية الذاكرة، والمزاوجة بين الزمن التأريخي والزمن الفلسفي.

إلاّ أن مجموعة تخطيطات “غويا” المعنوية بـ”حلم العقل” تلعب دورا مهما في ما يدعى بالاستعارة الاستبدالية، كما يقول الناقد طراد الكبيسي، وتتلخص فكرة هذه التخطيطات في العبارة التي خطت على جانب المنضدة والتي تقول “عندما ينام العقل تستيقظ الوحوش”، ويقول الكاتب “أجل، غويا هو الذي ودع عالم ‘المايات’ الجميلات في الساعة نفسها التي قصفت بها الطائرات مدينة بغداد بالقنابل عام 1991، هو الذي سأتكلم بأحلامه، أحلام العقل والجنون”.

استنطاق اللوحات

إن غويا في نص محمد خضير يسقط في حفرة في الظلام، وهو الظلام الذي يقع فيه الرسام المعاصر ويحيا أزمنة فيها “خمدت مصادر الطاقة، وخبت شعلة النور، وعمّ الظلام، أصابت الطائرات المحطة الكبرى لتوليد الطاقة الكهربائية”. والظلام والسقوط في الحفرة “ظلام آخر”، إضافة إلى عماء الفتاة المشردة، رموز بالغة الدلالة في نص قهري أخرج محمد خضير من “عزلته الذهبية”، حسب تعبير الشاعر علي عبدالأمير، لكنه ظل يحمل بصمات من كان يحرص على إثراء تجربته الكتابية بتروّ وتبصر بالغين.

تؤدي المحفورات الفنية للفنانين الذين مرّ ذكرهم، دور “الطرس”، كما يسميه جيرار جينيت، أي الصورة الخلفية المائية على الرق للصورة الواقعية، المهيلة، بمعنى أن ثمة بناء مركبا من طبقتين: المعنى ومعنى المعنى/ الأصل والمنزاح، حيث دائما تستبدل الصورة الواقعية بالصورة الفنية (التخطيطية).

وهكذا يمكن القول إن رواية “كراسة كانون” هي حكايات، أو كما أسماها تخطيطات لوجوه جسمها ضوء فانوس قديم، كل شخصية تقص في الزمان والمكان نفسه ما رأت أو عسكت أو فعلت هذه الروايات، الحكايات، تم جمعها ضمن تراتبية، وفي إطار فكرة متنامية، إنها حكايات تتضمن أكثر من حياة وأكثر من لوحة.. إنها كالنهر يجري بلا حدود تتبادل فيها المواقع، مع التخطيطات، شخصيات وكائنات أخرى لتؤدي أدوارها في الواقع أو في المتخيل.

لقد سعى خضير في هذا العمل، كما يرى الناقد صبحي حديدي، إلى تركيب أنساق متعددة من المزج البارع بين السرد الرؤيوي وإعادة استنطاق اللوحة التشكيلية، وتحديدا في أعمال غويا وبيكاسو وهنري مور. ومنذ الصفحة الأولى يعلن الراوي أنه شرع في تخطيط عدد من الوجوه القابعة حول موقد الشتاء، في شهر يناير 1991، حيث “ليالي التعتيم التي أعقبت الهجوم الجويّ”.

كذلك يعلن نوع المدينة التي يعيش فيها، بالفعل أو في مستوى التخييل “كنت على الأرجح أتحرّك على سطح مدينة انتسختُ صورتها من ذاكرة المدن السومرية، مركّبة من خيال بيكاسو المكعّب أو حلم غويا العقلي متعدد السطوح. مكعّب بانورامي لمدينة عراقية، أنتقل من سطح إلى سطح من وجوهه، برفقة شخصياتي التي تحمل الفوانيس وتشاركني حلمي، أو الأرجح أني أشاركها الحياة على مكعب أحلامها المتقلب في تخطيطاتي”.

14