متلازمة الإعلام التونسي الرديء
إذا كان الإعلام الرسمي في أي دولة هو بوق للسلطة وانعكاس لسياسة هذا البلد فهذا أمر يمكن فهمه وتقبله وإن كان على مضض، لكن أن يبدو الإعلام المضاد أو ما اتفق منظرو علم الصحافة على تلقيبه بالإعلام المستقل أو الإعلام البديل، الذي من المفترض أن يكون بعيدا عن رقابة السلطة، ركيكا ومتبلدا فهذا أمر يدعو إلى الحيرة والاستغراب، والتفكير في قيمة الأخبار والمعلومات التي يقدمها للناس بات مطروحا لبحث ودراسة هذا السلوك.
هذه المفارقة تحصل كثيرا وقد يتعايش معها الجمهور المتلقي رغما عنه في الكثير من دول العالم وخصوصا في المنطقة العربية، وربما تصبح في ما بعد أمرا واقعا لا مفر منه، وهو ما يحصل فعليا الآن، حتى وإن تم التسليم بأن المتابعين لوسائل الإعلام ليسوا جميعهم ساذجين.
ما يشد الانتباه في الآونة الأخيرة أن الإعلام التونسي يجسد هذه المتلازمة، أي متلازمة الإعلام الرديء في زمن التعاسة، ولا يبدو هذا الوضع غريبا لا سيما مع مقارنته مع إعلام دول عربية فهمت جيدا مغزى ودور الإعلام وتأثيره في كل جوانب الحياة، ودليل ذلك أن تونس تتصدر المراتب الأولى بين أتعس دول العالم في أحدث تصنيف لمؤشر غالوب هيلث واي الدولي للسعادة، الذي أصدره العام الماضي.
الصحافة المكتوبة ومعها فيلق من المحطات التلفزيونية والإذاعية في تونس خرجت عن الطريق الذي من المفترض أن تسلكه، فبعد أن كانت حبيسة رقابة السلطة قبل يناير2011، فجر الإعلاميون التونسيون ثورة للخروج من تلك العباءة، لكن رغم محاولاتهم المستميتة فإنه لأسباب كثيرة فشلوا ولم يغادروا منزلة الروتين، ولا يعفى المسؤولون عن هذه الوسائل من مسؤوليتهم في تردي المادة الإعلامية المتاحة للجمهور.
صحيح أن البعض يعتبر أن الإعلام سلطة هدفها الأساسي مراقبة ورصد الأحداث بأدق تفاصيلها، لنقل المعلومة لمعشر المتلقين وينتهي بذلك عملها، لكن الإعلاميين في كل أصقاع الدنيا يعتبرونها فنا وأنه لا يمكن أن تسري عليهم نواميس السياسة الكونية ولا مبادئ نظريات علم الاجتماع أو حتى شغب وتملق السياسيين.
وبالتالي ليس من الأجدى أن يداوم هذا الإعلام على عرض التفاهات أو المبالغة في الانتقاد لكائن من كان، وليس من الممتع أن يتضمن في كل مرة مجرد عناوين وبرامج مفرغة من مضامين ذات فائدة من دون استثمارها في أفكار جديدة بعيدا عن التملق والإسفاف وتقزيم الناس. وليست الثورة في المشهد الإعلامي أن تخصص قناة أو إذاعة أو صحيفة مساحات كبيرة للحديث عن الصراعات الأيديولوجية والنزاعات الحزبية والخصومات الشخصية.
الانتقال الديمقراطي في تونس لا يمكن أن ينجح دون مشاركة الجميع في التعبير عن آرائهم بحرية وبشكل علني وعبر كل المنابر، غير أن أخلاقيات الإعلام تبقى متلازمة في الكثير من الأحيان مع أخلاقيات السياسيين أنفسهم. فلو فكرت النخبة السياسية بمختلف تياراتها في بناء مرجعية سياسية ديمقراطية فإنه ستكون هناك نخبة إعلامية ديمقراطية تكمل الوجه الآخر من المشهد.
ويبدو أن تواصل التجاذبات السياسية اليوم، في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، سينعكس بالضرورة على المشهد الإعلامي رغم أنه لا يتحمل جزءا منها. فمن بين المغالطات التي تشاع أن الإعلامي يقدم نفسه كرجل أخبار، لكن الإعلام ليس مجرد إخبار، بل هو مؤسسات صناعة رأي لأن التعبير الإعلامي عن الأحداث يصنع المواقف.
ومن الواضح أن تعنت المشرفين على قطاع الإعلام التونسي، مهما اختلفت مشاربهم، يساهم بقدر وافر في تردي الوضع الفكري والمعنوي ليطول الجانب النفسي أيضا للصحافيين أنفسهم وبالتالي في احتقان الوضع السياسي وتقديم مواد إعلامية ليس لها من القيمة في شيء، بل تعتبر مجرد ملء للفراغ.
وهذا الأمر يجعل من هذا الإعلام فاشلا بنفس درجة الفشل التي يسخر كل مساحاته للكشف عن وقائع منسوخة أو مكررة، في حين أن تونس في حاجة إلى جيل يبتكر الأفكار لتجاوز متلازمة هذا الفشل والخروج من الأزمة الراهنة، ولم لا التطلع نحو تصدر أتعس دول العالم قبل أي حلم آخر.