ما فائدة كتاب لا يتذكر عنوانه عمال المطابع

عرب يقرؤون بنهم شديد لكن الصدمة في ما يقرؤون.
الأربعاء 2019/09/25
صانع الكتب أدرى بثقلها (لوحة للفنان علي رضا درويش)

إن الدراسات التي تنطلق هنا وهناك حول أن العرب لا يقرؤون، تبدو بمجرد تأمل هادئ مجرد أحكام لا تنفذ إلى العمق. فالعرب يقرؤون على عكس ما يشاع، لكن المفارقة لو عرفنا ماذا يقرؤون. لذا كان الجدير بالدراسات التي تتناول العرب ونسبة قراءاتهم أن تقول إن العرب لا يقرؤون قراءة سليمة وإيجابية.

الأمر لا يتعلق حتما، بفن اختيار العنوان وحده كعنصر جذب وتسويق، وإنما بكل ما يشي بمضمون الكتاب الذي ينبغي له أن يثير اهتمام القارئ (الزبون) بدرجة أولى. ارتأينا هنا ـوعلى سبيل المقاربةـ أن نقحم كوسيلة سبر ووحدة قياس لا يُشك في مصداقيتها، عامل الطباعة، ذا ‘المريول‘ الأزرق الملطخ بالحبر، وليس صاحب المطبعة أو دار النشر أو حتى المترددين على معارض الكتاب من ذوي الياقات البيضاء والسلوكيات الاستعراضية في أحيان كثيرة.

عامل الطباعة، وبحكم الخبرة التي صارت أشبه بالسليقة، يعرف ما هي العناوين التي ستعيد الآلات هضمها وإنتاجها من جديد، كما يشتم رائحة الكتب التي سوف تبقى مطبقة على سطورها ومكدسة في المستودعات.

أمة لا تقرأ

صناعة الكتاب تشبه غيرها من أصناف الإنتاج الفني الخاضعة لمنطق العرض والطلب، والمنقسمة في فرزها وتقييمها النقدي، إلى أغلبية توصف بـ”التجاري” وأقلية تُعرف بـ”النخبوي”، مع مراعاة بعض الانزياحات التي يتأرجح فيها المنتج بين هذا وذاك، حسب التكلفة المالية. فلطالما خرجت عناوين “راقية” في طبعة شعبية، وكذلك أطلت علينا عناوين شعبية مستهلكة في هيئات أنيقة، باهظة الثمن وقد طُبعت لتسكن الصالونات الفخمة.

عامل الطباعة، وضمن آليات التصنيع والتسويق لأي منتج ثقافي، لا يختلف عن الموظف التقني داخل قاعة العرض أو حتى حارس المسرح وقاطع التذاكر، في تقديره وتقييمه لنسبة الإقبال، وبالتالي فإن بإمكانه أن يُسدي النصيحة لأي طرف من أطراف الصناعة الفنية التي يعمل فيها، وذلك بحكم الخبرة التي أكسبته القدرة على جسّ النبض واستشراف مستقبل هذه “البضاعة” من تلك.

الإقبال على عنوان كتاب دون آخر، يعني حتما النجاح التجاري والتسويقي بالنسبة إلى صنّاع هذا الكتاب، ولكن، هل يعني هذا نجاحا في الرهان على انتشار الكتاب كطريقة مُثلى في محاربة الجهل والأميّة مثلا؟ وهل أن أي حالة اكتظاظ وإقبال على منتج فني تُعطي مؤشرا إيجابيا، كوننا في حالة “صحية” ويجب أن نكمل في ذات الطريق واثقين من غدنا أم أن في الأمر فخاخا ومغالطات من شأنها أن تأخذ الاستراتيجيات الثقافية في بلدان كثيرة إلى عكس ما خططت له حكوماتها؟

كم من الكتب الرديئة التي ابتلعت فئات عريضة من مجتمعاتنا، و”أنارت” لها طرق التعصب والتطرف والجمود

مهلا، وقبل أن تستعجل في الردود المتفائلة أكثر مما يجب، ما معنى شعوب نهمة للقراءة وأخرى كسولة وغير مهتمة؟ ماذا يعني أن تكتظ مسارح آخر الليل برواد من “السهارى” والباحثين عن قصف الوقت وإضاعته أمام عروض لا تقدّم إلا الرداءة، ولا تحارب إلا الذائقة الراقية؟

كم من الكتب الرديئة التي ابتلعت فئات عريضة من مجتمعاتنا، و”أنارت” لها طرق التعصب والتطرف فأخذت بأياديها نحو مستنقعات التخلف والجمود.

كم من الأفلام السينمائية والأعمال الدرامية التي ساهمت في تفريخ الجماعات الإرهابية وتربّت عليها أجيال هي اليوم أسيرة الفكر الظلامي، بعد أن تمثّلت أعداد كبيرة منها تلك “القيم” التي وقع ترويجها باسم الذود عن كرامة الأمة وإحياء نهضتها.

ثمّة سؤال أهمّ بكثير من الندب والتحسّر على “أمة لا تقرأ” وهو: لنفترض جدلا أننا نمنا ثم استفقنا ذات صباح على مجتمع يقرأ بنهم شديد، ويتأبط أفراده الكتب أينما حلّوا، في دور العبادة والحدائق ووسائل النقل، ويتبادلون الكتب كهدايا في الزيارات العائلية.. ما عساها تكون تلك الكتب عندئذ؟ هل هي من ذلك الصنف الذي يدفعك نحو التفكير العقلاني، ويحرضك على الابتكار ومعرفة أدق ما توصلت إليه العلوم أم من تلك التي نشاهدها تباع بالقناطير المقنطرة في معارض الكتب العربية، ويحمل أسفارها قوم ملتحون، عبوسون ومتجهمون، تنضح قلوبهم بالحقد والكراهية وتتطاير العدائية من عيونهم.

تقول القاعدة المتبعة في العمل التجاري: إذا استشعر أحد الخسارة فعليه أن يوقف تجارته فورا كي لا يصل إلى حافة الإفلاس.

ونحن إذ نستشعر هذا الانجراف الخاطئ نحو الإقبال على قراءة مدمرة، فما علينا إلا العمل على إعادة توجيه الطاقات الذاهبة إلى غير محلّها، والعمل على قطع الطريق أمام أصحاب الوعي الزائف من المشجعين والمبشرين بالقراءات الهدّامة.

ما فائدة أن تمتلئ مقاعد دور العرض المسوّقة للأعمال الرديئة، ما مصلحة الدولة في إقامة معارض للكتب المسمومة، وما القيمة التي سنضيفها إلى قنوات البث الفضائي ومنصات التواصل الاجتماعي إن نحن ساهمنا في ملئها بخطاب تحريضي يشجع على الفتنة وينشر بذور الفرقة والاقتتال.

القراءة السلبية

ليس الأمر دعوة إلى السلبية والاكتفاء بسدّ الثغرات التي قد يتسرب منها الفكر المتطرف تهربا من “وجع الرأس” على طريقة المثل الشعبي “دكانة مسكّرة ولا كرية مشومة” أي “حانوت مغلقة أفضل من إيجار غير مربح” بل وقوف عند ما “يمكن أن يدلي به عامل طباعة في معرض حديثه عن كتاب”، أي الاحتكام إلى أهل الرأي والخبرة في معالجة أي خلل ثقافي عن طريق معرفة أسباب تألق أو تخلف منتج إبداعي على غيره. وهي مسألة تعاني منها معظم الاستراتيجيات الثقافية العربية ـإن وجدت حقاـ والتي تعمل في غالبيتها على تهميش أهل الاختصاص والخبرة، ولا تربط الشأن الثقافي بالعمق الاجتماعي.

المفارقة أن دولا عربية كثيرة تخصص الأموال لوزارات الثقافة كبنى تحتية ومنشآت ضخمة وأفراد ومسؤولين، وليس للثقافة كمنتج فاعل ومخصب، بالإضافة إلى أن غالبية النشاطات تكتسي طابع البروباغندا السياسية أكثر من كونها ترمي إلى التنمية الثقافية كحصن يحميها من آفة التطرف والانقسام.

المقاربات التي يمكن لها أن تتصدى لأي خلل في السياسات الثقافية العربية، يجب أن تنطلق من الواقع بأرقامه التي لا تكذب ولا تزوّر الحقائق التي يحلو للبعض ليّ عنقها والقفز فوقها مستسلمين لمقولات جاهزة يظنونها ثابتة لا تتزحزح، في حين أن بعض الإحصائيات الحديثة من شأنها أن تبعث التفاؤل، والأكثر من ذلك، تجعل أهل الاختصاص يهتدون من خلالها إلى الطرق الناجعة في تصحيح وتصويب المشهد على النحو المأمول.

وفي هذا الصدد أشارت وكالة نيوز وير الأميركية، وهي العملاق الإعلامي الذي تعتمد عليه أهم شركات تسويق الكتاب بكل أنواعه، أن أكثر نسبة قراء متواجدة في القارة الآسيوية، تتربع فيها الهند على عرش القراءة بامتياز، بنسبة 10 ساعات و42 دقيقة أسبوعيا للفرد، تليها تايلاند بنسبة 9 ساعات و30 دقيقة أسبوعيا، فالصين، فالفلبين، ثم مصر في المرتبة الخامسة عالميا، تليها الجمهورية التشيكية، فروسيا، ثم تأتي السويد في المرتبة الثامنة لتتصدّر قائمة الدول الأوروبية القارئة تليها مباشرة فرنسا.

حتى الإرهابيون والجهلة والمتخلفون يقرؤون أيضا بل ويمضون أناة الليل وأطراف النهار في قراءة وحفظ ومراجعة الكتابات

وفي المرتبة العاشرة تأتي السعودية والمجر بنسبة متساوية 6 ساعات و48 دقيقة أسبوعياً، وفي المرتبة 21 الولايات المتحدة وألمانيا بنفس النسبة 5 ساعات و42 دقيقة.. والمثير للغرابة أن لا دول عربية في أفق الإحصائيات على سلم يضم ثلاثين دولة سوى مصر والسعودية.

وتعلّق الكاتبة فضيلة الفاروق، على هذه الإحصائية الصادمة للبعض بالقول “أعتقد أنه ليس من حقنا أن نتشاءم، فقد عرفنا على الأقل أين تكمن بؤرة تسويق الكتاب العربي”، وتضيف الفاروق بنبرة تفاؤلية “هذا في حدّ ذاته خبر ممتاز للكُتَّاب ومسوِّقي الكِتاب، وإن لم يأخذوا بهذه المعلومة الذهبية كقاعدة لتوجيه بوصلة تسويقهم فالعتب عليهم وحدهم”.

القضية ـ في تصوري ـ لا تتوقف عند ظاهر هذه الإحصائيات مهما أوحت به من تفاؤل وعززته من أمل في الالتحاق بركب الأمم القارئة، ذلك أن السؤال الأخطر هو: أيّ قراءة نروم وننشد؟ وهل تعدّ كتب الشعوذة والطلاسم والأبراج والعقائد المضللة شكلا من أشكال القراءة التي يعوّل عليها في مقاومة هذا التصحر الفكري؟

إن الإرهابيين والجهلة والمتخلفين يقرؤون أيضا بل ويمضون أناة الليل وأطراف النهار في قراءة وحفظ ومراجعة الكتابات المحرضة على القتل وسفك الدماء. كما أن بعض الأرقام التي أصدرتها مثل هذه الدراسات والإحصائيات، تكشف في باطنها عن حقائق تبدو في ظاهرها تنتمي إلى ثقافة اجتماعية سائدة قد توصف أجزاء منها بـ”الحميدة”، لكنها تبطن أمورا غريبة، لكن المحزن نوعا ما أن الدول العربية عموما لا تزال بعيدة عن الكتاب بُعد القمر عن الأرض، فحسب “سبوتنيك نيوز” فإن القارئ العربي يخصص يوميا ما يقارب الساعة للقيلولة، وساعة ونصف الساعة للزيارات العائلية، وثلاث ساعات لمشاهدة التلفزيون، وما يفوق الثلاثين دقيقة لشرب فنجان قهوة، وخمسين دقيقة للممارسات الدينية.

هذه الممارسات الدينية التي تقارب الساعة كل يوم، تتضمّن في أغلبها قراءات، ولكن أيّ قراءات، فباستثناء آيات التعبّد ذات البعد الروحي السليم، لا يمكن أن نغفل عن قراءات لكتب وشعائر ما أنزل الله بها من سلطان، تُتلى في الزوايا المظلمة، يتبادلها إسلاميون في جنح الظلام، وتحرّض في غالبيتها على الفتنة والكراهية.. أليس هذا وقتا كافيا كي نصنّف من “الشعوب القارئة” ولكن بتشاؤم أكثر.

14