مأساة العيش والموت في زمن القتل

حالة حصار في الفيلم التسجيلي السوري "الكهف".
الجمعة 2019/11/01
الطبيبة تتأمل مظاهر الدمار في المنطقة

بعد فيلمه ذائع الصيت “آخر الرجال في حلب” (2017)، الذي حصل على عدد من الجوائز العالمية كما رشح للأوسكار، عاد المخرج السوري فراس فياض إلى موضوعه الأثير في فيلمه التسجيلي الجديد “الكهف”، الذي شاهدناه مؤخرا ضمن عروض مهرجان لندن السينمائي.

مثل “آخر الرجال في حلب” يتناول فيلم “الكهف”، للمخرج السوري فراس فياض، مأساة العيش في زمن القتل، في منطقة الغوطة الشرقية، التي تعتبر من أكثر المناطق تعرضا لبطش قوات النظام السوري المدعومة من جانب الطيران الحربي الروسي، وهي لا تبعد سوى مسافة قصيرة عن العاصمة السورية دمشق. وقد تعرضت تلك المنطقة لحصار قاس من جانب قوات النظام استمر لخمس سنوات، حيث حوصر أكثر من 400 ألف شخص قتل منهم من قتل وأصيب من أصيب، وتشرّد الآلاف بعد أن هُدّمت منازلهم.

الفيلم لا يهتم كثيرا بالتركيز على “حالة الحصار” بشكل عام، لكنه يركز على تجربة شديدة الخصوصية في المقاومة، في التمسك بالرغبة في العيش، في التغلب على أعتى ظروف الحرب الشرسة المدمرة التي حوّلت المنطقة إلى خرائب وأطلال. هذه التجربة هي تجربة الصمود داخل مستشفى، أبقى عليها مجموعة من المتطوعين من الأطباء والطبيبات ومساعديهم، بذلوا جهودا هائلة تحت ظروف مستحيلة لإنقاذ حياة الأطفال.

وتعود الوقائع اليومية، التي يرصدها الفيلم، إلى أوائل عام 2018. فمع اشتداد الحصار أصبح العثور على المواد الغذائية من أكثر الأمور التي تشغل الجميع. الأطفال يعانون من سوء التغذية، والكبار والصغار يأكلون كل ما يستطيعون الوصول إليه.

ومع تعرّض المستشفى الوحيد باستمرار للقصف الجوي الشديد، لجأت مجموعة من الأطباء والممرضين والمتطوعين ومن ساعدوهم من العمال القادرين، إلى حفر نفق تحت أرض المستشفى، خصّصوه لاستقبال الحالات الطارئة، خاصة الأطفال الجرحى والمصابين، وأطلقوا عليه “الكهف”. العاملون في المستشفى انتخبوا طبيبة الأطفال الشابة “أماني”، لتصبح مسؤولة عن إدارة المستشفى.

في الجانب الأكبر منه يخصّص الفيلم لسرد قصة أماني؛ آمالها وأحلامها وتطلعاتها، وكيف تتعامل مع الموقف الصعب الذي تفرضه ظروف الحصار، وكيف تمكّنت من إدارة العمل في “الكهف” في تلك الظروف.

الفيلم لا يهتم كثيرا بالتركيز على "حالة الحصار" بشكل عام، لكنه يركز على تجربة شديدة الخصوصية في المقاومة
 

إنها تبدو في التزامها بارتداء الحجاب الثقيل تغطي به رأسها وتحجب جبهتها تماما ورقبتها، أقرب إلى التزمت، ولكنها لا تختلف عن سائر الفتيات والنساء اللاتي يظهرن في الفيلم، فرغم التزمت الظاهري، فهي ترفض النظرة الذكورية السائدة المتخلفة، التي تتبدى في موقف أحد الرجال عندما يأتي للبحث عن دواء لزوجته فتعتذر له أماني بعدم توفر الأدوية في المستشفى، لكنه يثور ويطلب مقابلة المدير- الرجل، وعندما تخبره أنها المديرة ولا يوجد غيرها، يحتج ويقول إن المرأة مكانها البيت لرعاية الأبناء، ولا يجب أن تعمل!

هي ترفض في حديثها إلى الكاميرا، أي إلينا مباشرة، هذا التعنت الذكوري، وتربطه بالقهر العام الذي يمارسه النظام. لكنها في الوقت نفسه تخضع لتقاليد يفرضها الرجال، وهو التناقض الذي لا يهتم الفيلم بتفسيره ولا يجده أصلا تناقضا، بل ولا يكشف لنا عن الموقف السياسي لأماني وغيرها، فالفيلم يقول إن هدفها الوحيد هو العمل، أي ممارسة المهنة التي تعلمتها، ولكنها أيضا ترفض النظام القمعي، ولا شك أن لديها وجهة نظر كاملة في البديل الذي لا تفصح عنه، باستثناء الحديث العام عن الحرية.

بورتريه شخصي

شاهد على الدمار
شاهد على الدمار

صحيح أن هناك الكثير من مشاهد الدمار، وتصوير حي مباشر للغارات التي يشنها الطيران الروسي، تقطع سياق الفيلم من وقت لآخر، حينما يشعر الموجودون في المستشفى أو في “الكهف” بالفزع مع اهتزاز الجدران. وصحيح أننا نرى الكثير من المناظر المؤلمة للأطفال المصابين أو الذين يفقدون حياتهم، ونرى انعكاس المأساة على آبائهم الذين يبكون فقدانهم، ويلعنون تلك الحرب القذرة.

إلا أن الفيلم يظل أساسا، عبارة عن بورتريه شخصي للدكتورة أماني، التي تروي كيف اختارت أن تنتمي إلى هذا النوع من العمل بحيث أصبحت حياتها تدور حوله، لا تستطيع فراق

الأطفال، ولا تستجيب أبدا لنداءات والدها الذي يخاطبها بين حين وآخر، عبر الاتصال التليفوني بواسطة شبكة الإنترنت، يطالبها بالعودة إلى كنف الأسرة في دمشق، ويبدي خوفه عليها، لكنه سيعود فيما بعد، مع استمرار أماني في الصمود حتى النهاية، لكي يثني عليها في رسالة صوتية يبعث بها إليها، ويفخر بما فعلته وقدمته وبأنها أصبحت مثالا عظيما يحتذى.

رغم أن قصة أماني هي قلب الفيلم وروحه كنموذج لما يمكن أن تقدّمه المرأة في زمن الحرب، إلا أن الفيلم يكتفي، كعادة هذا النوع من الأفلام، وكما رأينا في فيلم “إلى سما” الذي يصوّر يوميات المخرجة وعد الخطيب في حلب (سبق تناوله في “العرب”)، بتقديم صورة أحادية لشخصية ما، دون أن يحقّق ويتحقّق ممّا يسوقه من معلومات، ففي سياق فيلمنا هذا على سبيل المثال، يجري الحديث عن تعرض المنطقة للقصف بالغازات السامة، ويبدأ الجميع داخل الكهف في ارتداء الأقنعة الواقعية. ويقول الطبيب إن رائحة غاز الكلورين انتشرت في الجو، وإنه يشم رائحته في ملابس الأطفال الذين بدؤوا يتوافدون على المستشفى..

ولكن دون أن يقدّم الفيلم دليلا علميا ملموسا على استخدام السلاح الكيماوي، ولو من خلال تشريح إحدى الجثث. والمعروف طبعا أن موضوع القصف بالغازات السامة كان قد ذاع في وسائل الإعلام ونفته السلطات السورية. ظل الموضوع محل جدل.

نفق مظلم نهايته الأمل
نفق مظلم نهايته الأمل

أحادية النظرة تجعل الفيلم ينتمي الى أفلام الدعاية المضادة لإعلام النظام، وتصوير الوجه الإنساني للضحايا، لكنه مثلما كان فيلم “إلى سما”، يظهر وكأن النظام السوري يحارب أشباحا، فليست هناك كلمة واحدة عن الأطراف الأخرى التي تسيطر على المنطقة، والتي تضمن استمرار الإنترنت والتيار الكهربائي الذي ينقطع أحيانا، كما نرى، لكنه موجود في معظم الأحيان. هل هم ثوار مدنيون أم منظمات مسلحة تسليحا ثقيلا لديها أجندتها الخاصة؟

من دون توفر التيار الكهربائي ليس من الممكن إجراء العمليات، التي يقوم بها جراح متطوّع يبدو أيضا ساهما وحزينا تتركز الكاميرا كثيرا على وجهه في لحظات الشعور بالإرهاق والحزن. هذا الطبيب يلجأ إلى تهدئة أعصاب زملائه من العاملين في المستشفى وداخل غرفة العمليات، عن طريق تشغيل الموسيقى الكلاسيكية وعروض الباليه، على شاشة هاتفه المحمول، بل نراه في أحد المشاهد يشرح جماليات الباليه للمرأة التي تقوم بطهي الطعام أو المتوفر من الطعام؛ الأرز الذي لا ينضج تماما بسبب ضعف نيران الموقد الصغير، أو الفيشار الذي يوزّعونه على الجميع في الاحتفال بعيد ميلاد الطبيبة أماني، ولكن الحفل ينفضّ فجأة بسبب غارة جوية تجعل الجدران تهتزّ بشكل منذر بالخطر.

أين الطرف الآخر؟

ما هو إذن الطرف الآخر الذي يدفع النظام إلى كل هذا القصف والتدمير المجنون، وهل تختبئ عناصر هذا التيار بين المدنيين، وهل يمثل قوة تتطلع إلى الحرية التي تنشدها أماني أم أنه يسعى إلى إقامة مشروعه الخاص الذي سيضمن أيضا قهر المرأة ومنعها بالقوة من ممارسة أي عمل، بل ويحظر تعليم الفتيات؟ ولماذا تتعايش هذه المجموعة من المدنيين مع هذه الجماعات وتتلقى منها الدعم والمساعدة؟ والمعروف أن جماعة جيش الإسلام وفيلق الرحمان كانتا تحتلان المنطقة.

وليس مفهوما لماذا تتجنب مثل هذه الأفلام التي تصوّر الصمود الإنساني، تحقيق التوازن بين الأطراف المختلفة، وتصرّ على تصوير ما يحدث من طرف واحد فقط! صحيح أن الضحايا هم الموضوع الأساسي للفيلم، لكن هل هم ضحايا لطرفين متصارعين أم لطرف واحد فقط؟

ممّا يلفت النظر في الفيلم أيضا استخدام التمثيل أو إعادة محاكاة الحياة اليومية، خاصة في المشاهد التي تظهر فيها الدكتورة أماني، مع استخدام صوتها من خارج الصورة، وهي تروي وتشرح وتعبّر عن مشاعرها وأمانيها وآلامها عبر شريط صوت، لا شك أنه خضع جيدا للمونتاج بصورة مختارة لكي يكون بديلا عن التعليق الصوتي التقليدي المباشر ولكي يعمّق من تأثير الصورة، إلا أن “التمثيل” وإعادة المعايشة أمام الكاميرا يقلّلان من قيمة الوثيقة الملتقطة مباشرة من قلب الواقع.

من ناحية البناء، يعاني الفيلم من التفكك وغياب الخيط الذي كان يمكن أن يجمع بين الشخصيات المختلفة، مع الاكتفاء برصد بعض ردود الفعل، وتصوير بعض المواقف الطريفة مثل طهي كمية كبيرة من الأرز لا يستطيع الأطباء الانتظار حتى تنتهي بسبب شعورهم بالجوع، وكيف تبث أماني روح الأمل في نفوس الأطفال بالحديث معهم عن ضرورة أن نصبح “مهمين” بأن نفعل شيئا كبيرا في الحياة.. إلخ.

غياب البنيان المتين

لا يوجد اهتمام بالقبض بقوة على الموضوع، والانتقال المحسوب جيدا بين الداخل والخارج، وبين العام والخاص، وبين المرضى والمصابين والأطباء وسكان المدينة. كما يغيب أيضا تسليط الضوء على باقي فريق العمل في المستشفى بنفس الاهتمام بالطبيبة أماني. وينتهي الفيلم بخروج الجميع من سوريا طبقا للاتفاق مع السلطة، لإخراج المحاصرين ودخول القوات إلى المدينة. ونعرف من خلال ما يظهر من كتابة على الشاشة أن أماني ذهبت مع زملائها، وأنهم يعيشون جميعا، حاليا، في مكان ما في المهجر.

لا تغني قوة الجانب الإنساني في الفيلم، عن غياب العمود الفقري للفيلم، أي البناء المتقن المتماسك الذي يمتلك القدرة على استخراج الشعر من لحظات الألم، وهو عيب هذا النوع من الأفلام التي تصنع لغرض محدد؛ هو تحقيق الصدمة لدى الجمهور في الغرب.

ويبقى المرء مندهشا، يتساءل في نهاية الفيلم، كيف استطاع فراس فياض، مثلا، تسخير طائرة مروحية صوّر منها ذلك المشهد الهائل لحجم الدمار الذي حل بالمنطقة؟ وكيف سمح له بالتحليق في الأجواء لتصوير المشهد مع مصوّر فيلمه؟ في حين كان الآخرون جميعا يختبؤون داخل “الكهف”!

16