لماذا تتعثر صناعة الفوسفات التونسية

من اللافت أن عودة إنتاج الفوسفات في تونس بوتيرة ما قبل 2011 تسير ببطء شديد غير مفهوم رغم خفوت صخب الاحتجاجات المطلبية على الأقل منذ الوباء. فالنقابات التي يقال إنها كانت تعطل يبدو أنها ما زالت بنفس القوة حتى مع تراجع سطوة اتحاد الشغل. ولكن المؤكد أن السلطات بعدما وضعت أهدافا منذ سنتين أو أكثر للاستفادة من هذا المورد الإستراتيجي المهم في ظل الهدوء السياسي مع وصول الرئيس قيس سعيد إلى أعلى هرم السلطة لم تتمكن من الوصول إلى الأهداف التي ترسمها كل سنة.
هذه الصناعة التي تتركز أساسا في منطقة الحوض المنجمي الجافة مناخيا والمضطربة اجتماعيا على مر عقود كانت لسنوات في قلب التقلبات الداخلية بسبب سوء إدارة الدولة للقطاع. وكانت أيضا في قلب المنافسة الشديدة بين كبار المنتجين، فدول شمال أفريقيا من بين أكبر المنتجين، حيث تقترب المغرب ومصر من قمة الترتيب العالمي. وفي أعقاب اندلاع الحرب في أوكرانيا بداية 2022، انخفضت صادرات الفوسفات من روسيا، وهي منتج رئيسي آخر، إلى جانب الصين، الأمر الذي تسبب في ارتفاع الأسعار في السوق العالمية، لتبلغ ذروتها عند 350 دولارا للطن في 2023.
صناعة الفوسفات تتركز أساسا في منطقة الحوض المنجمي الجافة مناخيا والمضطربة اجتماعيا على مر عقود وكانت لسنوات في قلب التقلبات الداخلية بسبب سوء إدارة القطاع
فتح هذا الوضع فرصا لتونس، التي تعيش في خضم أزمة مالية حادة رغم امتلاكها رابع أكبر احتياطي للفوسفات في العالم، والذي يزيد عن 800 مليون طن، وفق التقديرات الرسمية، لتحقيق عوائد مجزية تفيد الاقتصاد وتنعش خزينة الدولة وتحافظ على فرص العمل ومن ثم تنميتها. لكن هذه الأزمة الاقتصادية والتفاوتات الداخلية والفساد كانت أيضا حججا رئيسية استخدمها قيس سعيد لإعادة ترتيب القطاعات الحيوية، والتي يفترض أنها قاطرة رئيسية للازدهار فيما بعد. لكننا لا نرى أثرا ملموسا في الواقع لهذه الخطط.
رغم سنوات الهدوء منذ عام 2021، سار قطاع الفوسفات الذي بلغ ذروته قبل 14 سنة مع كميات بلغت 8.2 مليون طن عكس تطلعات المسؤولين مع تراجع إنتاجه بأكثر من 25 في المئة هذا العام مقارنة بعام 2023، إذ أنه لم يصل حتى نصف ما تم إنتاجه في العام 2010. فاستمرار تعثر تحقيق الأهداف هو نتيجة لتداخل عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية، لم يتمكن المسؤولون من فك طلاسمها حتى مع إعلان وزارة الصناعة في مايو الماضي أن لديها إستراتيجية للنهوض بالقطاع تشمل التطوير وجعل سكان مناطق الإنتاج مساهمين في التنمية.
النقابات، خاصة اتحاد الشغل، لطالما كان لها دور بارز في السياسة المحلية، ولديها تأثير قوي في مختلف القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك قطاع الفوسفات. وبعد الإطاحة بحكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، تغيرت ديناميكيات القوة السياسية والاجتماعية في البلاد، ولكن النقابات لا تزال تحتفظ بقدرتها على التأثير في مجريات الأمور، خاصة في المناطق ذات الطابع الصناعي مثل ولاية (محافظة) قفصة حتى مع قيام السلطة بتحجيم دورها لبعض الوقت من أجل المصلحة العامة، وفي ظل تطمينات الرئيس قيس سعيد بأن للجميع حق في هذا المورد، وخاصة مع زيارته إلى الحوض المنجمي في يوليو 2023 للتأكيد على ذلك التوجه.
أحد التفسيرات التي تعطينا لمحة عن عدم انتعاش القطاع هو أنه بالرغم من أن سطوة اتحاد الشغل قد تراجعت بشكل نسبي في بعض الحالات نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة وحالة الانقسام الداخلي التي يعاني منها، لكن النقابات لا تزال تتمتع بقدرة كبيرة على التأثير وتساهم في عرقلة استئناف الإنتاج بشكل أسرع، فالمطالب الاجتماعية المتعلقة بتحسين ظروف العمل، والعدالة الاجتماعية والتوظيف، عوامل ساهمت في التعثر.
على السلطات إدراك أنها تضيع الوقت بعدم إطلاق العنان لتحريك عجلة هذه الصناعة، التي قدر البنك المركزي خسائر النقص في إنتاجيتها بنحو 40 مليون طن في العشرية الماضية
لكن من جهة أخرى، السلطات تواجه صعوبة في تنفيذ خططها، بما في ذلك تحسين الإنتاجية. هذه الصعوبة يمكن أن تكون نتيجة لعدة أسباب من بينها الإدارة غير الفعالة، وضعف التنسيق بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص، والبيروقراطية، مما يؤدي إلى تأخير تنفيذ المشاريع. أضف إلى ذلك المشاكل المالية، فبعد سنوات من الأزمة الاقتصادية، تُواجه الحكومة صعوبة في توفير التمويلات اللازمة لتحديث البنية التحتية وتطوير القطاع مع ضعف القدرة على جذب المستثمرين. كما أن العجز في الميزانية وارتفاع الدين العام حدّا من قدرتها على دعمه على النحو المطلوب.
علاوة على هذه العوامل الداخلية القديمة – الجديدة، ثمة تحديات خارجية تتعلق بالأسواق الدولية. فالفوسفات التونسي، الذي تضاهي جودته جودة الفوسفات الأميركي، مرتبط ارتباطا وثيقا بالطلب العالمي على الأسمدة، أي أن تقلبات الأسواق للأسمدة والفوسفات يمكن أن تؤثر على أيّ خطط للاستثمار في القطاع، مما يجعله أكثر هشاشة، ما يجعل الوضع مرتبطا بأبعاد تاريخية لم تكسر حتى اليوم.
كان أكبر استخدام تاريخي للفوسفات كمكون في الأسمدة الزراعية، ففي عام 2008، كانت تونس خامس أكبر منتج على مستوى العالم، ويرجع ذلك جزئيا إلى إنتاجها الوفير من المعدن عالي الجودة. ومع ذلك، واجه القطاع منذ ذلك الحين قضايا حوكمة حرجة، بما في ذلك نمط متكرر من الاحتجاجات وحصار الإنتاج من قبل المواطنين غير الراضين عن الفساد ونقص الشفافية في الصناعة. وقد منع هذا الدولة من استغلال مواردها بشكل كامل وتحسينها، وقد حد أيضا من مساهمته المحتملة في التحول في مجال الطاقة. كما جعل دولا عربية مثل الأردن التي لم تكن ضمن المنتجين الرئيسيين في السابق تتقدم تونس بأشواط.
على السلطات إدراك أنها تضيع الوقت بعدم إطلاق العنان لتحريك عجلة هذه الصناعة، التي قدر البنك المركزي خسائر النقص في إنتاجيتها بنحو 40 مليون طن في العشرية الماضية، بينما فاقت الخسائر المالية سقف الـ7 مليارات دولار، لكنني أعتقد جازما أن الأرقام تتجاوز ما يتم الإعلان عنه رسميا. فنحن لسنا في ترف حتى نترك الدولارات تتبخر بينما مواردنا مخزنة تحت الأرض بلا جدوى.