لخضر بورقعة مناضل جزائري ثار ضد الاستعمار وتمرد على السلطة

ثورة الشارع السلمية تضع بورقعة بين أبرز رموز الحراك الشعبي، خاصة وأنه كان يشدد على النهاية الطبيعية لجيل الثورة، وحتمية تسليم المأمورية للشباب المنتفض ضد السلطة.
الثلاثاء 2020/11/10
كورونا يخطف الشاهد الأبرز على اغتيال الثورة

لم تغره المزايا ولم يقعده تقدم السن، فكما ثار ضد الاستعمار تمرد ضد نظام الاستقلال، ليقضي بذلك عمره وفيا لمبادئ الحرية والديمقراطية، فتحمل جسده العليل برودة أسوار السجن وهو في عقده التاسع من العمر، من أجل جزائر أخرى تطمح إليها الأجيال الشابة، وكان بذلك رمزها ومعينها السخي، فمن عمق المظاهرات الصاخبة كانت رسائل الحرية ترادف لخضر بورقعة الذي رحل مؤخرا عن عمر ناهز 87 عاما، قضاها ثائرا ضد الاحتلال الفرنسي، ومتمردا على الأنظمة السياسية في بلاده، ولم تمنعه أمراضه المزمنة من أن يكون رمز الحراك الشعبي المنتفض ضد السلطة القائمة، ناصحا رموزها بالنزول إلى الشباب المنتفض وتسوية الأمر معه، لما حاولوا استغلال رمزيته ونفوذه في أوساطهم لاحتواء ثورة الشارع السلمية.

وقضى الرجل بعد أيام قضاها في مستشفى للشرطة الجزائرية بالعاصمة، إثر إصابته بوباء كورونا، وقد ووري الثرى في مقبرة في ضاحية سيدي يحيى الشعبية بالعاصمة، تنفيذا لوصية له أو تنفيذا لرغبة عائلته، التي رفضت أن يدفن في مقبرة العالية ضمن ما يعرف بمربع الشهداء المخصص لكبار الشخصيات الرسمية والتاريخية. وبذلك يكون قد فضل أن يرقد للأبد رفقة موتى بلاده البسطاء، أسوة بوصية المناضل التاريخي حسين آيت أحمد، الذي طالب بدفنه في مقبرة بمسقط رأسه في أعالي مدينة تيزي وزو، عاصمة القبائل، ورفض أن تقام له أي جنازة رسمية أو دفنه بمقبرة العالية بالعاصمة.

"العم لخضر" كما يناديه الجميع، دفع فاتورة مواقفه الجريئة وصراحته المعهودة، فقد انتقد قائد أركان الجيش السابق، حين كان في ذروة قوته ونفوذه وساءله عن مهام مشبوهة زعم أنه يديرها مع جهات خارجية

مواقف متمردة

وسط جموع غفيرة من الأهل والأقارب والمحبين حضرت رغم جائحة كورونا المستشرية في البلاد، شيعت جنازة الراحل لخضر بورقعة، لكن ذكراه تبقى راسخة في الأذهان، خاصة مواقفه وأفكاره المتمردة على السلطة المتعاقبة في البلاد، وانخراطه غير المشروط في مشروع تحرير سبب له الكثير من المضايقات والمتاعب، لكنه بقي صامدا وشامخا أمام حملات التشويه والتشكيك في تاريخه الثوري، وتعرضه للسجن بسبب انتقاده لقيادة الجيش ولمسار السلطة التي خلفت نظام بوتفليقة.

وفي مقبرة سيدي يحيى الشعبية بالعاصمة، علت الأصوات بشعارات وأهازيج الحراك الشعبي، وعلى قبره ردد المشيعون “بورقعة ارتاح ارتاح سنواصل الكفاح”، و”دولة مدنية ماشي عسكرية”، و”تبون مزور جابوه العسكر”، وذلك أمام أنظار عناصر الأمن، في حين غاب الحضور الرسمي عن الجنازة، واكتفاء مسؤولي الدولة برسائل التعزية.

وفي الوقت الذي أعلن فيه التلفزيون الحكومي عن دفن بورقعة في “مربع الشهداء” بمقبرة العالية وتنظيم جنازة رسمية، أعلنت عائلة الراحل عكس ذلك، وذكر ابنه هاني عن نية الأسرة تنفيذ وصية والده بجنازة شعبية في مقبرة سيدي يحيى، ليكتمل بذلك مسار القطيعة بين الرجل وسلطة بلاده حتى في وداعه الأخير.

وكانت رسائل التعزية الرسمية تنزل تباعا في الحسابات الرسمية لأصحابها على شبكات التواصل الاجتماعي، حاملة معها معالم الواجب بينما الحقيقة حملها معه الراحل إلى مثواه الأخير، فلقد كان سجينا لدى هؤلاء منذ أشهر قليلة فقط، وقبلها تعرض أمام أعينهم لحملة تشويه وتشكيك في مساره النضالي ضد الاستعمار الفرنسي.

الكل يعرف الخصومة التاريخية، بين الراحل، وبين السلطات المتعاقبة على قيادة البلاد منذ الاستقلال الوطني في جويلية 1962، فقد سبق أن تعرض للسجن لسبع سنوات كاملة في سبعينات القرن الماضي، لمعارضته نظام الرئيس الراحل هواري بومدين، وسجن لستة أشهر في يونيو العام الماضي، بتهمة هيئة نظامية بعد انتقاده لقائد الجيش الراحل الجنرال أحمد قايد صالح.

ملهم ثورة الشارع

رفقة موتى بلاده البسطاء، خيار فضّله بورقعة، أسوة بوصية الراحل حسين آيت أحمد، الذي أوصى بدفنه في مقبرة بمسقط رأسه في أعالي مدينة تيزي وزو، عاصمة القبائل، رافضا أن تقام له أي جنازة رسمية
رفقة موتى بلاده البسطاء، خيار فضّله بورقعة، أسوة بوصية الراحل حسين آيت أحمد، الذي أوصى بدفنه في مقبرة بمسقط رأسه في أعالي مدينة تيزي وزو، عاصمة القبائل، رافضا أن تقام له أي جنازة رسمية

في سجن الحراش بالعاصمة، رفض بورقعة أن يكون طرفا في أي تسوية بين السلطة والشارع، ونصح مبعوثي السلطة حينها، بحسب ما تسرب من محيطه، بأن ينزلوا إلى الشباب المنتفض في الشوارع وبحث التسوية معه، وأنه لا يملك أي رأي أو سلطة على هؤلاء لأن

المستقبل لهم وليس للطاعنين في السن كأمثاله، كما شدد لهم على أنه لن يرضى بإطلاق سراحه إلا بعد إطلاق سراح جميع الشباب المسجونين.

تلاشت نسبيا درجة البرودة في علاقته مع السلطة الحالية بعد التغيير الحاصل في هرم المؤسسة العسكرية، حيث بادر الرئيس تبون بإيفاد مستشار له لزيارته في مستشفى الشرطة بالعاصمة، إلا أن ركام القطيعة بين الطرفين كان أكبر ثقلا من محاولات الحلحلة.

وفي تعزيته كتب رئيس الوزراء عبدالعزيز جراد، المحسوب على نخبة النظام، إن “برحيل المجاهد قائد الولاية التاريخية الرابعة، الرائد سي لخضر بورقعة، تفقد الجزائر مناضلا مدافعا عن قناعاته من أجل التغيير، ووفيا لها في حياته. أدعو الله أن يتغمده برحمته الواسعة ويجعل مثواه الجنة، ويلهم أهله ورفقاءَه الصبر والسلوان. الله يرحمك يا عمي لخضر“.

أما قائد أركان الجيش الجنرال سعيد شنقريحة فقد وصفه بـ”المجاهد الرائد”، في حين أشاد الناطق الرسمي للحكومة ووزير الاتصال عمار بلحيمر بـ”شجاعة ووطنية عائلة المجاهد الكبير لخضر بورقعة الذي وافته المنية أمس بمصحة الأمن الوطني بالعاصمة، متأثرا بمضاعفات فايروس كوفيد – 19“. وأضاف “إن شجاعة ووطنية وكفاءة الفقيد كانت عاملا حاسما في تدرجه في العمل العسكري خلال حرب التحرير إلى أن بلغ بكل جدارة واستحقاق رتبة رائد في صفوف جيش التحرير الوطني، وأن الفقيد الذي وهب شبابه للنضال ضد المستعمر الفرنسي الغاشم، قد واصل مساره النضالي بعد الاستقلال وإلى آخر رمق في حياته الطيبة مدافعا عن الديمقراطية وعن الحقوق والحريات”.

لكن ما عسى لمثل تلك المفردات والتعازي أن تفعل أو ترمم بخصومة تراكمت عبر عقود من الزمن، فالرجل الذي حمل السلاح ضد الاستعمار وقاد الثورة في الولاية الرابعة التاريخية، انتهى به المطاف في شبابه وفي آخر عمره بالسجن في الأرض التي ساهم في تحريرها، وطالته حملة منظمة للتشويه والتشكيك في مساره النضالي.

ولم تكلف السلطة نفسها عناء الاعتراف بالخطيئة التي ارتكبت في حق الرجل في آخر عمره، فقد سجن وشكك في تاريخه، بإيعاز من جهات فوقية أرادت الانتقام من موقفه الداعم لثورة الشارع السلمية وانخراطه العلني فيها، فقد كان إلى جانب الأيقونة جميلة بوحيرد، المدرسة التي شحذت همم الحراكيين.

الرجل الذي حمل السلاح ضد الاستعمار وقاد الثورة في الولاية الرابعة التاريخية، انتهى به المطاف في شبابه وفي آخر عمره مسجونا في الأرض التي ساهم في تحريرها، وطالته حملة منظمة للتشويه والتشكيك في مساره النضالي

المرثيات لن تغطي على الجحود

وماذا يفيد الراحل من إطناب الناطق باسم الحكومة ووزير الاتصال عمار بلحيمر، ووسائل الإعلام الحكومية والخاصة في مرثياتهم له، وهي نفسها التي كانت منذ أشهر قليلة تمرر في شريط أخبارها حملة التشويه والتشكيك في مساره الثوري، واتهمته بـ”انتحال شخصية أحد شهداء الثورة”،

مستعينة في ذلك بشهادات ضعاف نفوس باعوا ضمائرهم من أجل الطعن في تاريخ وسمعة رجل، قيل عنه لو “كانت الشجاعة والرجولة تمشي لكانت لخضر بورقعة”.

دفع “العم لخضر” كما يناديه الجميع، فاتورة مواقفه الجريئة وصراحته المعهودة، فقد انتقد قائد أركان الجيش السابق، لما كان في ذروة

قوته ونفوذه وساءله عن مهام مشبوهة يديرها مع جهات خارجية، كما كان سباقا لكشف مخطط السلطة للالتفاف على مطالب التغيير لما صرح في صيف السنة الماضية أن ”السلطة حددت مرشحها للانتخابات الرئاسية وهي بصدد البحث عن تمرير مشروعها، ولن أكون بأي حال من الأحوال شريكا في هذه المهزلة”.

حالته تجسد، على تأخرها في تاريخ الجزائر المستقلة، مقولة “الثورة ذئبة تأكل أبناءها”، فالرجل ليس هو الوحيد الذي تعرض إلى سيناريو النكران والجحود، فقد سبقه العشرات من المناضلين الذين أدار لهم الاستقلال ظهره وانتهوا في الهامش، بسبب أفكارهم ومبادئهم التي لم تتوافق مع أهداف السلطة المتعاقبة على قيادة البلاد.

سطوة الرفاق

بورقعة لم تمنعه أمراضه المزمنة من أن يكون رمز الحراك الشعبي المنتفض ضد السلطة القائمة، ناصحا رموزها بالنزول إلى الشباب المنتفض وتسوية الأمر معه، حين حاولوا استغلال رمزيته
بورقعة لم تمنعه أمراضه المزمنة من أن يكون رمز الحراك الشعبي المنتفض ضد السلطة القائمة، ناصحا رموزها بالنزول إلى الشباب المنتفض وتسوية الأمر معه، حين حاولوا استغلال رمزيته

لئن كان بورقعة قد عايش مراحل مهمة من تاريخ البلاد، فإن رحيله يشكل رحيلا لأحد الشهود على تفاصيل المرحلتين، وهو الذي ألّف العام 1990 كتابه “شاهد على اغتيال الثورة”، ضمنه رؤيته لما وصفه بـ”انحرافات الاستقلال عن رسالة ومبادئ الثورة”، في إشارة إلى تركيبة السلطات التي أدارت شؤون البلاد لصالح أفكارها ومصالحها وأيديولوجيتها.

ولم يتأخر الراحل في إشهار بطاقته الحمراء في وجه من وصفهم بـ”مغتصبي السلطة بعد الاستقلال”، في إشارة إلى اكتساح ما يعرف بجيش الحدود في العام 1962 للعاصمة واستحواذهم على السلطة، دون أي اكتراث لمشروع ميلاد الدولة الذي كان يحضر له آنذاك من طرف الطبقة السياسية، وكان أشد المنتقدين والرافضين لطموح قيادة الأركان آنذاك برئاسة بومدين وبن بلة.

ويبقى بورقعة من الرعيل الأول المؤسس لحزب جبهة القوى الاشتراكية المعارض العام 1963، رفقة مناضلين آخرين معارضين كحسين آيت أحمد ومحند أولحاج، وأعلنوا في “سرية تمردهم على السلطة الشمولية القادمة من الحدود على ظهر الدبابة لافتكاك السلطة من الشرعية الشعبية“. وهو الذي لم يتوقف عن صداماته مع رفاق السلاح ورموز السلطة، فحكم عليه العام 1968 بعقوبة سبع سنوات سجن أطلق بعدها بعفو رئاسي.

وعلى نفس النسق استمر معارضا لنظام بوتفليقة، على خلفية انحداره من مدرسة جيش الحدود، وتوجهاته الأحادية ونرجسيته السياسية، قبل أن ينخرط في ثورة الشارع السلمية ويتحول الى أبرز رموز الحراك الشعبي، خاصة وأنه كان يشدد على النهاية الطبيعية لجيل الثورة، وحتمية تسليم المأمورية للشباب المنتفض ضد السلطة، وهي ذهنية جعلته مختلفا دوما عن جيله.

13