الجنرال حسان.. "صقر الصحراء" من السجن إلى ترتيب أوراق الساحل الصحراوي

مصالح الجزائر تتعدى ارتدادات الصراعات الضيقة ومشاعر الجحود.
الأحد 2025/06/15
من الكفاءات النادرة في مرحلة المجد الاستخباراتي الجزائري

بعد خمس سنوات قضاها في السجن، وخمس أخرى أمضاها على دكة التقاعد، عاد الجنرال عبدالقادر آيت وعرابي (حسان)، إلى أبرز دائرة في الاستخبارات الجزائرية، وهي مديرية الأمن الداخلي.

وإذا كان الانطباع الأولي يشي بأن الرجل سيهتم أو يتفرغ للشأن الأمني الداخلي، فإن كل المؤشرات توحي بأن منصبه الجديد، سيكون امتدادا لدور يراد له أن يؤديه على جبهة الساحل والصحراء، التي تحولت إلى مصدر قلق حقيقي للقيادة السياسية في البلاد، فالرجل من الكفاءات النادرة في مرحلة المجد الاستخباراتي الجزائري، التي ألمت بتفاصيل وجزئيات المشهد الأمني والسياسي والاجتماعي في المنطقة.

◄ الاهتزازات التي عاشها جهاز الاستخبارات في إطار صراع الرئاسة والجهاز كلفت الدولة فراغا كبيرا في مناطق العمق الحيوي

وظل الجنرال عبدالقادر آيت وعرابي يوصف بـ”صقر الصحراء”، بسبب دوره الميداني والعملياتي، حيث صال وجال منذ مطلع التسعينات في جنوب البلاد، وتجاوز الحدود إلى الساحل وجنوب الصحراء، في ملاحقة الجماعات الجهادية بالقوة الصلبة والناعمة في آن واحد، فكما كان يواجهها بالسلاح، كان يخترقها بالعناصر البشرية وبالخطاب الديني والسياسي، فتمكن من معرفتها من الداخل واستشراف قراراتها.

وإلى غاية انفجار ثورات الربيع العربي وسقوط أنظمة عربية، كنظام القائد الليبي معمر القذافي، تخصص الجنرال حسان في احتواء السلاح الليبي المتدفق في الصحراء بين أيدي مختلف الجماعات المسلحة.

تجربة وعرابي في جنوب البلاد، وامتداد مهامه إلى دول الساحل وجنوب الصحراء، مكنته من معرفة المجتمعات المحلية، وربط صلات مع النسيج القبلي، والاحتكاك بمختلف الأعراق والإثنيات الأفريقية، بما فيها الموالية للفكر الصوفي، أو القابلة لاعتناق الأفكار الجهادية، فكانت معطياته بمثابة المرشد للمؤسسات الرسمية في الدولة.

ولذلك كانت تحولات المنطقة تتم تحت عيون وتجربة الجزائر، إلى غاية انقطاع قنوات الشبكة بداية من العام 2015، الأمر الذي ترك فراغا سياسيا وأمنيا وإستراتجيا، انقلب في السنوات الأخيرة إلى متاعب حقيقية، أفقدتها نفوذها ودورها الطبيعي والتقليدي في المنطقة.

طي تركة الصراع والعقاب

◄ شنقريحة يعيد الجنرال حسان إلى ملف الساحل
شنقريحة يعيد الجنرال حسان إلى ملف الساحل

يعود الجنرال حسان لقيادة أبرز مديرية في جهاز الاستخبارات، فبعد تهم مخالفة الأوامر العسكرية، وإتلاف وثائق سرية، وتشكيل مجموعات مسلحة، وامتلاك سلاح خارج منظومة المؤسسة، ثم تتويجه بحكم البراءة على مشارف استنفاد المحكومية العام 2020، تراهن دوائر القرار على خبرة ورصيد الرجل لاستعادة التوازن وضبط الأوتار في منطقة الساحل بشكل يكفل لها كسب زمام المبادرة ومكانتها الطبيعية.

قالت عنه مجلة “لوبوان” الفرنسية إن “الجنرال حسان، يعتبر أسطورة حية، ومغامرا، جريئا، ولكنه عقلاني. بدأ مسيرته في سلاح البحرية في الستينات، وتخرج من مدارس عسكرية مرموقة، وعمل في مديرية أمن الجيش، قبل أن ينضم إلى الحرب ضد الإرهاب في 1992. وإنه في ذروة العشرية الدموية 1990 – 2000، كان قريبا من رجاله، وشارك في الميدان، حتى إنه أصيب بجروح في حاجز مزيف نصبه إرهابيون في منطقة البليدة، (50 كلم جنوبي العاصمة) وفي عام 1993، كُلّف بمهام خارجية في الساحل، التشاد، والسنغال، مما جعله خبيرا معترفا به في قضايا الأمن في منطقة الساحل والصحراء. وأصيب بجروح خطيرة أثناء مهمة في أنغولا، ونال تهنئة الأمين العام للأمم المتحدة لشجاعته”.

وأضافت “في 1999، عاد إلى الجزائر والتحق مجددا بمكافحة الإرهاب. بفضل خبرته في الاستخبارات والاختراق، ساهم في إحباط عدة عمليات إرهابية داخل الجزائر وخارجها، نال عنها إعجاب شركاء فرنسيين وأميركيين. ويقال إنه الضابط الأكثر تتويجا في الجيش الجزائري، لكن الضربة الكبرى في مسيرته، والتي أدت لاحقا إلى سجنه، كانت حادثة تيغنتورين العام 2013”.

◄ القيادة التي أربكتها تطورات منطقة الساحل والأزمة مع فرنسا، أرشدتها للاستعانة مجددا بالجنرال المخضرم من أجل ضبط الأوتار

وتابعت “بعد سقوط نظام القذافي في ليبيا العام 2011، كلفه قائد الجهاز (توفيق)، بمهمة سرية لاستعادة أسلحة، بينها صواريخ مضادة للطيران كانت ستصل إلى جماعة إرهابية بقيادة الجزائري مختار بلمختار. فاخترق رجاله الجماعة، وشاركوا في الصفقة، ورفعوا السعر، واشتروا الأسلحة، ثم قضوا على المجموعة واستعادوا المال، في عملية استخباراتية بامتياز”.

هذه الإنجازات جعلت الجنرال حسان من الكفاءات البشرية النادرة في الجهاز الاستخباراتي، لاسيما وأن سنوات الخدمة والخبرة المتراكمة في منطقة الساحل والصحراء، وقدرته على اختراق النسيج الأمني والاجتماعي وحتى السياسي في المنطقة، أمَّنت لمؤسسات الدولة قبل العام 2013 المعطيات الحقيقية التي تكفل لها مراقبة وتوجيه التحولات المحلية في الاتجاه الذي تريد، ولذلك فإن القيادة السياسية التي أربكتها تطورات منطقة الساحل والأزمة مع فرنسا، أرشدتها للاستعانة مجددا بالجنرال المخضرم من أجل ضبط الأوتار واستعادة المبادرة، بالاستفادة من خبرة ورصيد الرجل.

وكانت هذه الحصيلة كافية لاقتناع القيادة السياسية الجزائرية بإعادة الجنرال عبدالقادر آيت وعرابي إلى قيادة دائرة الأمن الداخلي، من دكة التقاعد، خلفا للجنرال عبدالقادر حداد، وهي الخطوة المفاجئة التي ترجمت نية دوائر القرار في استغلال خبرة ورصيد الرجل الميداني والمهني في منطقة الساحل والصحراء، والاستفادة من معرفته بالنسيج الأمني والاجتماعي بالمنطقة من أجل مواكبة التحولات التي تعيشها المنطقة في السنوات الأخيرة، خاصة وأنها تحولت إلى مصدر قلق حقيقي للجزائر، لاسيما في ظل دخول فاعلين أقوياء على خط الأزمة.

وتفاديا للغط الذي أثير غداة الإعلان الرسمي عن تعيينه على رأس مديرية الأمن الداخلي، خلفا للجنرال عبدالقادر حداد (ناصر الجن)، تداركت وزارة الدفاع الجزائرية الأمر، ببث صور قرار التعيين وتسليم واستلام المهام بين الرجلين بمقر المديرية، وتحت إشراف الوزير المنتدب للدفاع الوطني الجنرال سعيد شنقريحة، وبذلك يكون الرأي العام قد شاهد لأول مرة في التلفزيون الحكومي صورة الضابط السامي المخضرم الذي لا تحفظ له صورة لدى وسائل الإعلام أو في مخيلة الجزائريين المتابعين للشأن العسكري والأمني.

اعتراف الخارج قبل الداخل

◄ المؤسسة العسكرية تعيد حساباتها
المؤسسة العسكرية تعيد حساباتها

ذهبت الصور التي بثها التلفزيون الحكومي إلى تكريس توجه المؤسسة العسكرية لإضفاء الشفافية على سيرورة عملها، وعلى بنيتها البشرية، من خلال إظهار ضباطها السامين في مختلف الدوائر، بزيهم العسكري وحتى بالبدلة المدنية، كما كان الشأن مع مدير الأمن الخارجي الجنرال رشدي موساوي، الذي ظهر في فعالية الأمن السيبراني في أفريقيا التي احتضنتها الجزائر منذ عدة أسابيع، وتلاه ظهور مدير الأمن الداخلي الذي لا يحفظ له الجزائريون ولا حتى الإعلام المحلي، صورة شخصية.

قرار عودة الجنرال المتقاعد إلى أبرز منصب في جهاز الاستخبارات، أثار العديد من الدلالات والرسائل الداخلية والخارجية، فهو ضابط سام مخضرم، ظل يشكل الذراع اليمنى لمدير المخابرات السابق الجنرال محمد مدين (توفيق)، فهو علاوة على صلة القرابة التي يرددها المتابعون، يعد أحد رجالات الثقة الذين عول عليهم الرجل في عمل الجهاز منذ مطلع تسعينات القرن الماضي إلى غاية حل الطبعة الماضية للجهاز، وإحالة مسؤوليه الكبار على التقاعد في 2015.

وإذا كان قدوم الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم في 1999 قد تم في بداية الأمر بالتوافق مع النخبة العسكرية والاستخباراتية النافذة، فإن طموح الرجل ونرجسيته في ممارسة صلاحياته وأكثر كرئيس للدولة، جعله يدخل منذ العام 2004 في معركة سحب البساط تدريجيا من تحت النخبة العسكرية، وكان ذكيا في إدارة الصراع بتلافي المواجهة المباشرة، واعتماد أسلوب التحالفات الظرفية، فتحالف مع مدير الاستخبارات الجنرال توفيق، للإطاحة بقائد الأركان الراحل محمد العماري في 2004، واستعان بقائد الأركان الذي خلفه الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، للإطاحة بالجنرال توفيق.

مخاطر الصراعات الضيقة

كانت الولاية الرئاسية الثالثة (2009)، إيذانا بارتفاع صوت المواجهة بين جناح الرئاسة وجناح الاستخبارات في إطار لعبة التوازنات والنفوذ داخل السلطة، وجاءت حادثة “تيغنتورين” العام 2013، التي أدارها جهاز الاستخبارات، وأوعز الرجل الأول في الجهاز حينها (توفيق)، إلى مدير مصلحة مكافحة الإرهاب (حسان)، بالتدخل العسكري لإنهاء عملية الاختطاف، رغم أن توصيات أميركية وفرنسية وبريطانية كانت تلح على الرئيس بوتفليقة بتفادي سيناريو التدخل العسكري حفاظا على أرواح الرعايا الأجانب العاملين في المحطة الغازية “تيغنتورين”، بالقرب من الحدود الليبية.

وشكلت الحادثة منعطفا حاسما في مسار الصراع بين الرئاسة وجهاز الاستخبارات، فالعملية التي نفذها تنظيم “الموقعون بالدم” المقرب من القاعدة، ويقوده مختار بلمختار (بلعور)، كانت محاولة لاختراق المحطة الغازية المهمة في إنتاج الغاز الجزائري، واختطاف العاملين بها من جزائريين وأجانب تابعين لشركات متعددة الجنسيات، من أجل إرغام السلطة الجزائرية على الدخول في مفاوضات معه لإطلاق سراح عدد من قيادات التنظيمات الجهادية المسجونة، على غرار الأمير عبدالرزاق صايفي (البارا).

◄ تجربة وعرابي في جنوب البلاد، وامتداد مهامه إلى دول الساحل وجنوب الصحراء، مكنته من معرفة المجتمعات المحلية، وربط صلات مع النسيج القبلي

وكانت كل الخيارات آنذاك مطروحة، بما فيها التفاوض مع التنظيم المسلح، خاصة وأن عواصم غربية وأميركية كانت تلح على ضرورة تفادي التدخل العسكري حفاظا على سلامة الرعايا الأجانب، بعدما أطلق الخاطفون الرعايا الجزائريين، غير أن قيادة جهاز الاستخبارات آنذاك فاجأت الجميع، بما فيها رئاسة الجمهورية وقيادة أركان الجيش التي لم تكن على ود معها، وأعطيت التعليمات لمدير مصلحة التدخل ومكافحة الإرهاب بقيادة حسان، لتنفيذ الهجوم الذي قضى على الخاطفين والمخطوفين جميعا، منهم 37 رعية أجنبية من جنسيات مختلفة، ولم يسلم إلا أربعة أفراد من التنظيم المسلح، الذين جرى توقيفهم إلى غاية الآن، وكان مبرمجة إحالتهم على المحاكمة منذ أيام، قبل أن يتم تأجيلها إلى وقت لاحق.

العملية أثارت لغطا كبيرا في واشنطن وعدة عواصم غربية، ووجد الرئيس بوتفليقة فيها ذريعة لاتخاذ خطوات جريئة تجاه جهاز الاستخبارات، بدعم من قائد أركان الجيش آنذاك، الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، فقرر الإطاحة بالجنرال حسان، ومباشرة محيطه المقرب في تصفية الجهاز، بينما كان هو يرقد في مستشفى فال دوغراس الفرنسي للعلاج من جلطة دماغية ألمت به العام 2013.

ويرى متابعون للشأن الجزائري أن الاهتزازات التي عاشها جهاز الاستخبارات في السنوات الماضية في إطار صراع الرئاسة والجهاز، وغياب الانسجام والتواصل السلس بين الطبعة المنحلة والطبعة المستحدثة بداية من العام 2015، هما اللذان كلفا الدولة فراغا كبيرا في مناطق العمق الحيوي، على غرار الساحل الأفريقي، ومنطقة الجوار.

وأثرت التجاذبات التي طرأت على جهاز الاستخبارات والقيادة العسكرية والرئاسة خلال العقد الأخير، كثيرا على فقدان خيوط تحرك الوضع الأمني والاجتماعي وحتى السياسي في عموم المنطقة، ولذلك باتت المؤسسات الرسمية في الجهاز الدبلوماسي مقطوعة عن الواقع والمعلومات الميدانية التي كان يؤمنها الجهاز الاستعلاماتي.

7