فرص الجزائر للاستفادة من ترتيب الأذرع العسكرية الروسية في الساحل

لم تعلق الجزائر إلى حد الآن على قرار مجموعة “فاغنر” الروسية الانسحاب من مالي بعد انتهاء مهمتها، وفي هذا الصمت مساحة رمادية تتضمن غموض موقف أو عدم اطمئنان تام، من خطوة روسية يبدو أنها أقرب إلى إعادة ترتيب الأوراق، أكثر منها إلى تفاعل إيجابي، مع مخاوف باتت ماثلة على الحدود في السنوات الأخيرة.
المجموعة الروسية بررت قرارها بتحقيق الأهداف المتفق عليها مع المجلس العسكري الحاكم في البلاد، كالقضاء على آلاف الإرهابيين، واستتباب الأمن، واستعادة المدن والبلدات التي كانت خارج سيطرة الحكومة المركزية، وتكريس الوحدة الوطنية، لكن الوقائع الميدانية تثبت عكس ذلك، الأمر الذي يجعل تلك المبررات مجرد ذر للرماد في العيون لا غير.
التقارير الواردة من مالي، توحي بأن الوضع الأمني أكثر هشاشة من أي وقت مضى، فإلى حد الإعلان عن الانسحاب لا يزال أسرى من المجموعة في قبضة الانفصاليين وتنظيم نصرة الإسلام والمسلمين المقرب من القاعدة، وعشية الكشف عنه سقط نحو 100 عسكري بين قتيل وجريح وأسير من الجيش المالي ومن فاغنر، والتنظيم بات على تخوم باماكو.
◄ مهما كانت رسائل وإجراءات الطمأنة المحتملة من روسيا للجزائر، فإن الحضور العسكري المؤكد بالفيلق الأفريقي والانتشار الميداني له، سيشكل مصدر قلق إستراتيجي للجزائريين
ويؤكد هذا أن المبررات التي أوردها بيان المجموعة غير قابلة للتصديق، وأن القرار يتعدى ترتيبات الاتفاق المذكور إلى خيار حاسم اتخذ في العاصمة موسكو من أجل تعديل معالم خارطة الأذرع العسكرية داخليا وخارجيا، فالوضع الغامض للمجموعة داخل روسيا نفسها يشي بإمكانية رغبة دوائر القرار الروسي في تأطير أكثر للمجموعة وتقليص نفوذها وحتى توظيفها في جبهة أوكرانيا.
أما على الصعيد الخارجي، فيمكن استنتاج نوايا روسية لشريكها التاريخي والإستراتيجي في المنطقة، وهو الجزائر الممتعضة من نشاط موسكو العسكري والإستراتيجي في عمقها الحيوي، فسحب مجموعة فاغنر غير المنضبطة، واستخلافها بالفيلق الأفريقي، الواقع تحت إشراف ووصاية وزارة الدفاع، يمكن أن يسمح بفرض أجندة عمل تستمد أوامرها من القيادة المركزية، وضمان سيره ضمن خطة تراعي نشاطها الميداني ومصالح الشركاء الإقليميين.
هذا التغيير المفاجئ في نظر المتابعين لشؤون المنطقة، يحتاج إلى المزيد من الوقت والإجراءات العملية، للتأكد من طبيعته إذا كانت شكلية أم عميقة، لكنه يكرس قاعدة إستراتيجية، وهي أن روسيا بصدد إرساء قواعد صلبة في المحور الصلب الذي تريد تشييده انطلاقا من شرق ليبيا إلى غاية بوركينا فاسو.
وتكليف الفيلق الأفريقي المكون من نحو 40 ألف عنصر بالمهمة، دليل على نيتها في ترتيب وتنظيم الخارطة الأمنية والعسكرية في منطقة الساحل، وإضفاء حالة من النظام والانضباط والهيكلة التراتبية بداية من وزارة الدفاع في موسكو، إلى غاية أبسط عنصر مسلح في مركز ميداني.
وهو ربما ما يترجم تريث الجزائر في التعليق على التغيير الروسي في المنطقة، لأنها تحتاج إلى المزيد من الإجراءات وتجلي معالم الخطة الجديدة، لتلقف أي نوايا روسية في طمأنتها، وعدم تهديد مصالحها وأمنها الإقليمي، فأجندة المشاورات الدورية بين الجزائر وموسكو التي كانت مبرمجة كل ثلاثة أشهر لمناقشة الأوضاع في المنطقة، يبدو أنها لم تجد نفعا أمام عشوائية وفوضى نشاط مجموعة فاغنر، التي تجرأت على الدفع بالعمل العسكري والميداني إلى المسافة صفر بين مالي والجزائر، رغم أنه تم الاتفاق في أكثر من مرة على عدم تجاوز الكلم 100 ثم 60 ثم 40.
◄ المجموعة الروسية بررت قرارها بتحقيق الأهداف المتفق عليها مع المجلس العسكري الحاكم في البلاد، كالقضاء على آلاف الإرهابيين، واستتباب الأمن
التغيير المسجل يبقى ذا طبيعة عميقة، لما يتعلق الأمر بالشأن الداخلي والإستراتيجي الروسي، فهو على ترتيب دور الأذرع العسكرية، يفسح المجال أمام الفيلق الروسي بالانتشار في مالي ومنه في منطقة الساحل، واستكمال تنفيذ الخطة الرئيسية في إرساء محور ليبيا – بوركينا فاسو، لكنه يبقى في حاجة إلى أفعال إضافية من المنظور الجزائري، للتأكد من رغبة روسيا في عدم إزعاجها على الحدود الجنوبية والجنوبية الشرقية المقلقة.
وفي جميع الحالات، فإنه مهما كانت رسائل وإجراءات الطمأنة المحتملة من روسيا للجزائر، فإن الحضور العسكري المؤكد بالفيلق الأفريقي والانتشار الميداني له، سيشكل مصدر قلق إستراتيجي للجزائريين، فالمنطقة التي تمثل عمقا حيويا لهم ظلت طيلة العقود الماضية موطئ امتداد ونفوذ سياسي، رغم مزاحمة الجيش الفرنسي المطرود، ومع الملء العسكري للروس للفراغ الذي تركه الجيش المذكور، وما يحمله معه من أبعاد سياسية وإستراتيجية واقتصادية مع شركاء آخرين، سيبقي عزلة الجزائر في المنطقة، حتى ولو استقرت الأوضاع الأمنية والعسكرية في الشريط الحدودي.
القصور الجزائري في استشراف وتقدير التحولات العميقة في منطقة الساحل منذ العام 2020، جعلها في موقع الخصم للأطراف الفاعلة واللاعبين الجدد، ولو كان بدرجات متفاوتة، فالانطباع الحاصل أوحى بأنها المستهدف الأول من وراء لعبة تحريك الرمال، لكن لا بد من التسليم بأن الطبيعة تأبى الفراغ، والظروف التي مرت بها منذ العشرية الدموية 1990 – 2000 ثم الخيارات الدبلوماسية المقصرة في التعاطي مع المنطقة، والاضطراب السياسي الذي هز البلاد في 2019، كلفها تضييعا لمصالحها في المنطقة.
ورغم الخصومات المتفاوتة مع الأطراف النافذة في الساحل، وظهور مقاربات تتحدى الجغرافيا السياسية، لتغيير الخارطة الإستراتيجية، فإن موقعها ورصيدها التاريخي مع الروس، يكفلان لها استغلال الفرص المتاحة، بداية من حتمية الامتداد العمودي للقارة الأفريقية، فهي البوابة الطبيعية والمناسبة لأوروبا نحو أفريقيا، ولأفريقيا نحو أوروبا، كما يمكنها توظيف الترتيب المسجل في الأذرع العسكرية الروسية، لصالح خفض القلق على الحدود الجنوبية كخطوة أولى.