لا مكانة لنيس من دون ماتيس
وصلنا نيس الشاسعة، في تمام الساعة الواحدة زوالا، فـ”غراس” استنزفت منا صباحا كاملا، غير نادمين عليه، طبعا.
مبان ومطاعم وبحر وخليج طويل مديد.. وجدنا أنفسنا في “كاجنيس سور مير”، المطلة على البحر مباشرة، أغرانا بحر نيس الفسيح، فاخترنا بين أمرين، إمّا أن نسبح، أو أن نسبح..
لكنني اخترت حلا مغايرا تماما لرفقتي، فلجسدي المتعرّق إلاّ لماما، مساحات أخرى للسباحة، أمّا عيناي فمتشوّقتان للقاء حبيب، قرأت عنه الكثير وشاهدت له أكثر.
تركت الجماعة واتجهت رأسا بعد بحث مطوّل عن مكان وجهتي “متحف ماتيس” بشارع “حلبة السيميز” بُعيد المدينة القديمة بقليل.
مبنى أثريّ رائع يعود إلى القرن السابع عشر الميلادي، عرفت من خلال أسئلتي التي لا تنضب، أنه تأسّس سنة 1963، وأنه في يوليو من السنة الماضية احتفت فرنسا أيّما احتفاء بمرور خمسين عاما على التأسيس.
دفعت أربع يورو، نعم، أربع يورو فقط، لأجد نفسي في حضرة هنري ماتيس (1869/1954)، ذاك الوحوشي، وما هو بوحوشي، وذاك الاستشراقي، وما هو باستشراقي، بل ذاك الزخرفي الأصيل.
أمام لوحة “حمام السباحة” التي رسمها ماتيس على السيراميك مستخدما ألوان الجواش في عام 1950.. تسمّرت، واستحضرت ماتيس الذي لا أعرفه، وكأني أعرفه!
وقلت وكأني أفكر بصوت عال: “أيّ ملهم ألهمك سيّدي هذه الرسوم والألوان؟”.
فاجأني رجع صدى صوتي، وكأن ماتيس يحادثني: “هو سحر الشرق الذي تشبّعت منه في رحلاتي المتعددة إلى الأندلس والجزائر والمغرب”.
تذكّرت حينها، أن ماتيس عاش في المغرب الأقصى بين عامي 1912 و1913، فأدركت أنّ ألوانه الحارة والعنيفة، ألهمه إيّاها ضوء متوسّطي جنوبي الطابع، زائد سحر مدينة لازوردية اسمها نيس التي تردّد عليها منذ كان يافعا ثمّ استقرّ فيها حتى وفاته سنة 1954.. أي قبل إنهائه لوحة “حمام السباحة” بأربع سنوات.
ماتيس خلطة عجيبة بين سحر الشرق بتضاريسه الفاتنة، ونسائه المحظيات، وصالوناته الفارهة، وبين جنة الريفييرا بجبالها الشاهقة، وهضابها المخضّبة باخضرار لا يزول، وبحرها اللازوردي الذي لا تجده إلاّ في “الكوت دازور”، وحاناتها التي لا تقفل إلاّ على صباح جديد.
كلّ هذا جعل من ماتيس رمزا لنيس الذي أهداها أفضل سنين عمره، فأهدته اعترافا دائما، بأنّ لا مكانة لنيس دون ماتيس، فكلاهما واحد.
مدينة رسمتها الطبيعة فأحسنت رسمها، ورسوم رسمها ماتيس لنيس فأضاف إليها وأفاض عليها شمسا ثانية، لا تغيب، ماتيسيّة التوقيع.
اكتفيت من نيس، بعد زيارتي إلى متحف ماتيس، فلا شيء أصبح يغريني فيها بعد جولتي تلك، فماتيس عرّفني بحاضر المدينة وقديمها، وأعادني من حيث لا أدري، بل وأدري من خلال اللون والضوء المنقوش في أيقوناته، إلى بلدي الأم تونس دون تأشيرة سفر!