لا بد من ثقافة تنزع الطابع السحري عن العالم والزمن

أي هوية يحتاجها الإنسان للعبور إلى المستقبل وإلى حياة أفضل.
الأحد 2020/07/19
تحولات عاصفة تحرج المعنى السكوني للهوية

في ظل انفتاح العالم على بعضه البعض وخفوت القوميات الكلاسيكية وتراجع الصراع الأيديولوجي وفي ظل التطور التكنولوجي والتواصلي الرهيب، بات أكثر المفاهيم تعقيدا هو مفهوم الهوية، وإن اتفق الكثير من علماء الاجتماع على أنه مفهوم ثقافي بالأساس، فهناك اختلاف كبير حول عناصره الدينية والعرقية واللغوية والجغرافية والتاريخية وغيرها، حيث يحتاج هذا المفهوم إلى فهم أكثر عمقا من مختلف الجوانب للاتجاه به إلى المستقبل، وتجنب سقوط الهوية الذي سيعني بالضرورة سقوط الخصوصية الثقافية وبالتالي الوقوع في الاستلاب.

إذا كانت الثقافة تشير إلى مجموعة العادات والممارسات واللغات والقيم ووجهات النظر العالمية التي تحدد الفئات الاجتماعية مثل تلك القائمة على العرق أو المنطقة أو المصالح المشتركة وغيرها، فإن الهوية الثقافية كمستخلص مجتمعي يحيل إلى الهوية الوطنية مكتسب إنساني وقانوني وسياسي وديموغرافي، وخاصية أساسية ثابتة وطويلة الأمد تنظم الإدراك والعواطف والسلوك.

ولكي ننظر في الطرق التي يتم بها تمثيل خطاب الثقافة الوطنية وقوة التمثيلات لكسب الولاء القومي وتحديد الهوية الوطنية، سنناقش الإشكاليات الفكريّة والسياسية والاجتماعية المتعلقة بالهوية والمواطنة، من خلال فحص رؤى بعض المفكرين والباحثين المغاربة حول المفاهيم والتدقيق في الشعارات والأهداف والوقوف عند الغايات والوسائل، ومقاربتها من زاوية ثقافية وسياسية وأيديولوجية.

الهوية الوطنية

من وجهة نظر الفيلسوف والمفكر محمد سبيلا، التي أبداها في ندوة نظمتها مؤسسة محمد عابد الجابري نهاية يونيو الماضي، حول موضوع “الهوية والمواطنة”، أن الثقافة التي تظل أسيرة الماضي ستبقى معوقة عن التطور ومنشدة عن الحاضر، إن لم تتفاعل مع الأشكال الحيوية الموجودة في المجتمعات الرائدة، أو على الأقل تلك التي قطعت خطوات كبرى في هذا الاتجاه.

فالمواطنة والهويات والأيديولوجيات عناصر مركزية للأنظمة السياسية، وعلى هذا الأساس ولدعم الهوية على مستوى البحث الثقافي والفكري والسياسي، يؤكد محمد الطوزي، الباحث في العلوم السياسية والأنثروبولوجيا، في ذات الندوة، أنها تحتاج إلى مجموعة تُؤَمِّنُ رابطا مشتركا ويكون لديها إحساس بأن هذا الرابط هو ما يجمعها، مثل الهوية القبلية التي تعني إنتاج خطاب يجمع أعضاء مؤسسة القبيلة من خلال الجد الأول أو تاريخ الجماعة.

إن مفهوم الهوية الوطنية جزء لا يتجزأ من الثقافة السياسية بالمعنى الكامل للكلمة باعتبارها نمطا معقدا من المعاني والقيم المتعلقة بالمجموعة التي تحدد حدودها بقدرة الدولة على التدخل ويمكن تفسير أي تغيير في تنظيم المجموعة كنتيجة وكذلك كسبب لبعض التغيير في الهوية الوطنية.

ويعتقد علماء الاجتماع أن الهوية الثقافية قد تم بناؤها عادة من حيث القبيلة أو العرق أو الدين أو المنطقة، مع الدولة القومية ككيان سياسي مهيمن، فإن هذه الهويات قد تراجعت تدريجيا إلى هوية ثقافية وطنية.

هناك من يرى أن الهوية الوطنية ليست أكثر من مجتمع متخيل، وبالتالي ليست لها نتائج حقيقية وجوهرية، فإن محمد الطوزي أستاذ علم الاجتماع المغربي ومؤلف كتاب “الملكية والإسلام السياسي في المغرب” يشدد على أن الهوية عرفت أوجها مع الوطنية بوصفها أيديولوجيا جامعة تختزل وتحارب الهويات الهامشية، وتنتج هوية تصبح مؤسَّسَة وتجد بوتقتها داخل الدولة الوطنية.

التوجه نحو الهوية وأقنمتها وأسطرتها وإضفاء طابع غير تاريخي عليها قد طبع التاريخ العربي الحديث

وأكد محمد سبيلا أن الهوية الثقافية هي أقوى تشكلات ومضامين الهوية، مشيرا إلى أن مسألة “الهوية” كانت دائما محط صراع بين نظرة ثبوتية اختزالية ونظرة حيوية ديناميكية.

وبالعودة إلى ما قاله محمد الطوزي في ذات الندوة، نجده يؤكد أن إنتاج الهوية بوصفها مرجعا موحدا لا يجد نفسه إلا في إطار الدولة الوطنية، والنازع إلى إنتاج المواطنة باعتبارها مفهوما جامعا ومتوجها إلى المستقبل ومنتجا، لا لماض مشترك ولكن لغد مشترك. وقال المتحدث إن هناك تجربتين تاريخيتين في هذا الإطار يوجد المغرب بينهما إذ لم يجد بعد مكانته.

وإذا كانت الهوية الوطنية تعبيرا يصف الإدراك الذاتي والسلوك الذي يشاركه الأفراد الذين يعيشون في الدول القومية الحديثة، فإنه يفترض مسبقا وجود تجانس نفسي وثقافي بين مواطني كل دولة، بالإضافة إلى فكرة أنه يمكن اعتبار كل أمة فردا جماعيا، مع خصائص مشابهة للأفراد التجريبيين الذين هم من سكانها.

فعندما تكون الهويات الأساسية دون روابط وعلامات مهمة خاصة بالإثنية، يتم بناء هويات أكثر هشاشة من خلال العرق على سبيل المثال، ولهذا فحضور الهوية كمرجع موحَّد لا يجد نفسه إلا في الدولة الوطنية، حسب الطوزي، ولإنتاج المواطنَة كمفهوم جامع ومختزل، ينتج مستقبَلا مشتركا، لا ماضيا مشتركا.

وإذا كان خطاب المواطنة لا يتجاوز الاعتراف، وخطاب الهوية يقع في استعداء الآخر، كما يعتقد المؤرخ والروائي حسن أوريد، في ندوة “الهوية والمواطنة”، فإنّ الحلّ يكمن في مجتمع لائق، يقرّ بقيم المساواة والحرية والاعتراف كذلك، لأنّ عدم الاعتراف يفضي إلى ردود فعل متشنّجة، وقد تكون عنيفة. وفي تدخله أشار الباحث العراقي كاظم الموسوي إلى أنّ هناك ترابطا جدليا بين الهويات والمواطنَة يجعلنا بحاجة إلى خلق جدلية بين الهويات المتعدّدة والمواطنة وربطها بمستقبل الأجيال القادمة، وهو ما نحتاج معه أن تكون الهوية عاملا مساعدا لخلق حياة أفضل، وهنا دعا سبيلا إلى التفكير في كيفية الانتقال من ثقافة “الذاكرة” إلى ثقافة المستقبل، مشيرا إلى أن هذا هو الإطار الأنسب لطرح مسألة الهوية.

تحولات هوياتية

خمود البعد العشائري داخل المجموعات الإنسانية ككل جعل الهوية تتخذ طابعا ديناميكيا تتفاعل فيه عدة مستويات
خمود البعد العشائري داخل المجموعات الإنسانية ككل جعل الهوية تتخذ طابعا ديناميكيا تتفاعل فيه عدة مستويات

تقوم الثقافات كرأس مال هوياتي اجتماعي بتجميع وإعادة إنشاء المعاني التي يتم تداولها في الحياة اليومية، وذلك بوساطة تحديد وإعادة تعريف نفسها في عملية تحول مستمرة، فالتعريف بالهوية الثقافية يمنح الناس مشاعر الانتماء والأمن ويوفر لهم إمكانية الوصول إلى الشبكات الاجتماعية التي توفر الدعم والقيم والتطلعات المشتركة، ما يساعدهم في كسر الحواجز وبناء شعور بالثقة.

فالهوية الثقافية كانت دوما محط صراع بين نظرة ثبوتية وسكونية أو اختزالية ونظرة حيوية دينامية، حسبما يعتقد محمد سبيلا.

وأكد سبيلا أن الثبوتية والاختزالية قطبان لازما باستمرار طرح مسألة الهوية، مشددا على أننا نعيش تحولات عاصفة تحرج المعنى السكوني للهوية، وهذا يشمل كل المجتمعات على كافة المستويات.

وذهب سبيلا شارحا تصوره، بأن التصور السكوني يمكن أن يكون مقبولا إلى حد ما في إطار منطق صوري، ولكن عندما يتعلق الأمر بالانتقال من المستوى المنطقي أو العقلي المحض إلى مستوى التاريخ والمجتمع، فإن ذلك يجعل هذه الهوية الثقافية تؤخذ في إطار ما يحكمها من سياق، مما يعني أن الهوية الثقافية هي هوية تاريخية متحولة، وأن إسقاط النظرة السكونية عليها فيه إجحاف.

وفي رده قال محمد الطوزي إن الهوية كما تحدث عنها سبيلا، أي بوصفها دينامية وليست سكونية، هي هوية مبنية ومنتوج وليست موروثا، وهو ما يفسر الصراع الحضاري اليوم بين هذين النمطين.

ويقول أستاذ علم الاجتماع محمد الطوزي إن خمود البعد العشائري داخل المجموعات الإنسانية ككل جعل الهوية تتخذ طابعا ديناميا تتفاعل فيه عدة مستويات، مشيرا إلى أن الفاعل في هذا التفاعل هو الفرد بوصفه فاعلا ومنتجا وكيانا له عقل ومسؤولية واختيارات، الأمر الذي يجعل الفردانية تتخذ طابع مؤسسة تقوم عليها الحضارة الراهنة. فالتحولات الجارية حاليا غير مرتبطة فقط بما خلقته أزمة كورونا مجتمعيا واقتصاديا وسياسيا على المستوى العالمي والمحلي، بل يجادل الفيلسوف محمد سبيلا بأن مجتمعاتنا هي في طور الانتقال من فكر تقليدي تأملي إلى فكر تجريبي عقلاني ولو بالتدريج، وسنعيش تحولات موضوعية سواء قبلنا بها أو لا.

وعلى هذا الأساس قد تكون الثقافة أو الهوية الوطنية القوية والمرتبطة بالتحولات العاصفة والانتقالية والمؤثرة في النظرة للحاضر والمستقبل والقيم، وفي ظل الظروف غير التقليدية التي نمر بنها، مصدرا للقوة المادية اقتصاديا وارتفاع مستويات المعيشة، والقيمية بإعادة اكتشاف رموز التاريخ الثقافي والفكري والحضاري الهوياتي.

وعليه، أقدم محمد سبيلا على شرح منظوره لهذه الفرضية، بكون هذه التحولات العاصفة التي ستخرج مفهوم الهوية من تصورها التقليدي إلى آخر حديث وديناميكي، مشيرا إلى أن التاريخانية التي دخلنا فيها تفرض علينا أشياء غائبة عنا، “هي أن اندراجنا في الثقافة الحديثة، دخولنا للبنوك ولباسنا العصري واستعمالنا للنظارات، واندراجنا في الحقل التقني، هو اندراج في ثقافة تنزع الطابع السحري عن العالم وعن الزمن، بشكل يؤدي إلى تغير مفهوم العقل والزمان”.

الهويات والأيديولوجيا

الهوية الدينية ستتراجع
الهوية الدينية ستتراجع

على الرغم من الخلاف العميق حول ما إذا كانت الهويات والأيديولوجيات ضرورة مجتمعية أو وجودية، سواء كانت فردية أو متعددة، فالثابت أن الهوية والثقافة السياسية ليست مجموعة متجانسة من القيم التي يتقاسمها جميع أعضاء المجتمع، بقدر ما هي تكوين متطور ومستمر للأيديولوجيات المتنافسة الموروثة من الصراعات السياسية الرئيسية التي مر بها المجتمع الوطني.

لذا فهناك توجه صارم مبني على إنتاج هوية موحدة داخل دولة موحدة إما بإعادة إنتاج هويات هامشية وإدماجها في سرد موحد، وهي عملية، يقول الطوزي، تتم من خلال كتابة التاريخ أو من خلال إنتاجات فكرية ذات طابع أيديولوجي وليس تاريخانيا، وهو توجه يبني لخطاب موحد يمحو خطابات هويات هامشية تشوش على هذا الخطاب الموحد، وقال إن هذا التوجه يفضي إلى هوية موحدة ومواطن موحد ولغة موحدة ومصير موحد ومشروع موحد.

ونتيجة لذلك، من منظور تجريبي، يناقش محمد سبيلا المسألة من جانب أن هناك هويات وليس هوية واحدة، كالهوية الاشتراكية والإسلامية والعرقية والهوية التقنية، مبرزا أن موضوع الهوية إشكالي وفيه إغراءات ومخاطر ومزالق على اعتبار أن هناك رؤى وتصورات واستعمالات وتوظيفات أيديولوجية وسياسية متعددة للهوية.

وإذا كان الطوزي الباحث في العلوم السياسية والأنثروبولوجيا اعتبر أن الخطاب الأيديولوجي قد يؤسس لهوية واحدة يمكن أن تكون مهيمنة أو الوحيدة في إطار معين، كما هو الحال للدولة الوطنية، فإن المفكر محمد سبيلا يقرأ المسألة في التوجه نحو الهوية وأقنمة الهوية الذي طبع التاريخ العربي الحديث. وعلى المستوى المغربي كنموذج، أكد الطوزي أن تصادم الهويات داخل هذا المجال المتعدد حيث يقف وراء ذلك الفاعلون الأيديولوجيون، أي منتجو الأيديولوجيا وليس الناس العاديون، وضرب مثالا بآخر هذه التصادمات الناتجة عن إطلاق اسم كسيلة وما خلفه من مواجهة بين التيار السلفي أو الإسلام السياسي المنتج لهوية دينية والتيار القومي المنتج لهوية ثقافية والتيار الأمازيغي المنتج لهوية عرقية.

ولهذا السبب اعتبر محمد سبيلا أن التوجه نحو الهوية وأقنمتها وأسطرتها وإضفاء طابع غير تاريخي عليها قد طبع التاريخ العربي الحديث.

ويقول علماء الأنثروبولوجيا إن تعبيرات الهويات المواطنة المختلفة هي وسيلة لإظهار ما يحدث في العالم واستعارة للشدة والتواتر اللذين يميزان لقاء الثقافات المختلفة، لهذا يعتقد الباحث العراقي كاظم الموسوي، أثناء تدخله في الندوة، أن هناك ترابطا جدليا بين الهويات والمواطنَة ما يجعلنا بحاجة إلى خلق جدلية بين الهويات المتعدّدة والمواطنة وربطها بمستقبل الأجيال القادمة. وإذا كانت الهويات والمواطنة تشكل القيم المدنية وجزءا أصيلا من الثقافة السياسية للبلد، فهذا دفع كاظم الموسوي إلى التأكيد أن ما نحتاجه هو أن تكون الهوية عاملا مساعدا لخلق حياة أفضل، وهنا دعا محمد سبيلا إلى التفكير في كيفية الانتقال من ثقافة الذاكرة إلى ثقافة المستقبل، مشيرا إلى أن هذا هو الإطار الأنسب لطرح مسألة الهوية.

11