كُتاب زُرق

إنهم هنا. بيننا. يملكون قدرة مدهشة على ملء الفضاء الأزرق. الكتابة بالنسبة إليهم تبدأ وتنتهي عند حصاد اللايكات. لذلك يبدون مستعدين لإحراق الآخرين، سواء كانوا آباء أو مجايلين أو أصدقاء مفترضين أو أعداء، متماهين في ذلك أحيانا مع صورة الضحية تزلفا لعطف الآخرين ولتضامنهم في معاركهم الوهمية الصغيرة، أو مستعينين أحيانا أخرى بشماعة الإقصاء وبخطاب يجعل الآخر مفسدا، في الوقت الذي يتناسون أن الفساد الأكبر يبدأ من نصوصهم التي تأتي على اللغة والجمال.
بالطبع، لا ترتبط الحالات بفترة ما ولا بمشهد ثقافي معين. ويبدو ذلك أمرا مشتركا. غير أن وسائل تصريف العداوات تختلف الآن، مع ظهور وسائل الاتصال الاجتماعي، حيث لم تعد تنحصر في الصالونات والمقاهي، بل صارت قذائفُ الكُتّاب تصل، عبر البث المباشر، إلى مرماها، مغلفة بغير قليل من الحقد والكراهية.
والحصيلة أنه يبدو أن مهنا جديدة تُصنع الآن بارتباط بحلقات مجال الكتاب. القارئ الذي يبدو مستعدا على الضغط على زر اللايك، كما لو أنه يوقع شيكا على بياض، والكاتب الذي لا كتاب له، والكاتب الذي يصنع مجدا أدبيا داخل رأسه فور صدور كتابه الأول. والكاتب الذي يستغني عن الكتابة بالصورة التي تنقل بالمباشر تفاصيل حياته اليومية. الكاتب في المقهى. الكاتب مسافر. الكاتب في المول، الكاتب في المستشفى. ولعل ذلك يعيد مساءلة كل الأعمال التنظيرية التي أسست سواء لأدبيات الأجناس الأدبية أو لنظرية التلقي أو لسوسيولوجيا الكتابة، حيث صار المشهد الثقافي ينحو حاليا نحو زوال العنصر الأساس في الكتابة وهو القارئ.
والأكيد أن هذه الحالات صارت مشتركة، حيث كشف بحث ميداني أجرته صحيفة لوفيغارو الفرنسية عن كون 6 بالمئة من الفرنسيين يملكون نسخة مخطوطة ويحلمون بنشرها، وهو ما يوازي مليوني ونصف مليون فرنسي يحلمون بأن يصيروا كتّابا. ولنا أن نتصور حجم أحلام المجد المؤجلة.
خلال عقود عديدة، كان على الثقافة العربية أن تبني نفسها وأن تشيد بناياتها في الوقت الذي انشغلت فيه الدول ببناء مؤسساتها. وكان لهذا المسار المحفوف بالعزلة ضريبتُه أيضا. فقد خاض العديدون حروب مواقع وهمية، وتنازع البعضُ حقلا رمزيا كان من المفروض أن يسع الجميع. وفتح ذلك البابَ لإحساس مفرط بالإقصاء، تزايد مع تزايد عدد المثقفين ومن شابههم، والأحاسيس تأخذ طعمَ الأوهام حينما تصير مشتركَة وجماعية.
وبذلك تبدو الكتابة مشتلا يجمع كل المتناقضات، حيث يتآلف التواضع والغرور، الأنا الجماعية والأنا المفرطة في التمركز حول ذاتها. الوعي بمسؤولية الكتابة وهاجس السرعة بحثا عن نجومية ما. وحده الكاتب الحقيقي من يستطيع أن يدبر كل ذلك.