كيف تقرع القصيدة الجديدة أبواب الرفض والتمرد؟

المغامرة روح الفنون والآداب، وعلى رأسها الشعر، ديوان العرب المفضّل في كل العصور. وتقترن مغامرات الشاعر المجدد عادة برغبته في التثوير والتحرر والانفلات، على أن هناك خلطا مؤسفا لدى بعض الشعراء والنقّاد بين كون القصيدة الناضجة بحدّ ذاتها احتجاجًا وخروجًا على المألوف، وبين دعوة القصيدة الساذجة إلى الرفض والمعارضة من خلال الألفاظ والعبارات التي تأتي عادة شعارية صارخة.
يخوض الشعر الجديد منعطفًا حساسًا يتعلق برغبته في التغيير ومواكبته لطموح المتلقي الساخط على الأمر الواقع، خصوصًا أن البعض يتهم هذا الشعر العصري بأنه لم يساير الثورات العربية مثل فنون وإبداعات أخرى اقترنت بالشوارع والميادين في السنوات العشر الأخيرة، منها الغرافيتي والكوميكس والكاريكاتير وفنون البوب آرت وغيرها.
الحقيقة أن الأمر مختلف تمامًا، فالقصيدة البصرية المكتوبة بتاريخها وتصنيفها النوعيّ شيء، وحماسيّات الميدان الإنشادية وأغنياته الهادرة شيء آخر، وقد أدى التقريب بين الصنفين إلى أعمال مشوّهة، منها على سبيل المثال تلك الدواوين التي صدرت في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 تحت مظلة “إبداعات الثورة” التي حاولت مؤسسات الدولة من خلالها ركوب الموجة وامتصاص غضب الجماهير.
الدواوين التي صدرت في هذا النمط حينها كانت ركيكة في مجملها وفقيرة فنيًّا، لكنها حاولت تأسيس شرعيتها من خلال اتكائها على مفردات من قبيل “الميدان”، “الحرية”، “التغيير”، “الثورة”، “الشهداء”، “الربيع العربي”، وما إلى ذلك من لعب بالكلمات البراقة، بل إن بعضها اتخذ صورة المتظاهرين في ميدان التحرير بوسط القاهرة وهم يحملون أعلام مصر لوحة للغلاف الأمامي.
خلخلة الثوابت
ليس من شك في حتمية اقتران الشعر الجديد بالنبض الفردي، ومهما كانت ذاتية الطرح وخصوصيته فإن الانفصال الكلي عن الشأن العام مستحيل، لكن تبسيط علاقة الشاعر بأحداث الواقع الكبرى مثل الثورات العربية على هذا النحو هو أمر بالغ السذاجة.
مضت عقود على تجارب شعراء مصريين وعرب عُرفوا سابقًا بالرفض والاحتجاج، على النحو اللغوي النمطي، وتجاوزتهم القصيدة الجديدة تمامًا، منذ سنوات طويلة، بمفاهيمها ومنطلقاتها وآلياتها وفلسفتها، خصوصًا قصيدة النثر المجردة من الإيقاع الظاهري.
من هؤلاء، المصري أمل دنقل، صاحب المعارضات السياسية الشهيرة في سبعينات القرن الماضي للرئيس المصري أنور السادات ومعاهدة كامب ديفيد، ومن أبرز أعماله الدالة على هذا النسق قصيدته “لا تصالح”.
في السياق ذاته، قدّم السوري نزار قباني ديوانه “قصائد مغضوب عليها”، وغيره من شعر الرفض والانتقاد والاحتجاج السياسي، بتصورات لا تبتعد كثيرًا عن تثوير القاموسية اللغوية واستدرار الشحن العاطفي والانفعاليات السمعية، وفق الموروث الإنشادي للقصيدة العربية.
دارت في فلك مشابه تجربة العراقي مظفّر النواب، الذي تعرض للملاحقة والسجن والنفي طويلًا بسبب قصائده المناوئة للدكتاتوريات العربية، من قبيل “الوطن الآن على مفترق الطرقات/ أقصد كل الوطن العربي.. فإما وطن واحد/ أو وطن أشلاء/ لكن مهما كان فلا تحتربوا/ فالمرحلة الآن لبذل الجهد مع المخدوعين.. وكشف وجوه الأعداء”.
كيف يكون الشاعر الجديد متمردًا وثائرًا دون تسطيح رؤيته وتقزيم قصائده وفق تلك الأبجديات التقليدية للمعارضة والرفض، بالمعنى اللغوي القديم؟
تكمن الإجابة، ببساطة، في أن تتحول النصوص الجديدة نفسها إلى ثورات جمالية ومضمونية على مستوى الكتابة والأدبيات والماهيّة، فتحقق الشعرية مفهوم خلخلة الثوابت فعليًّا، بذاتها، لا أن ترفع القصيدة لافتة للدعوة إلى أفعال حياتية ومجتمعية وسياسية متجاوزة، خارج مضمار الفن، في حين تبقى القصيدة مقيدة بلوازم متوارثة مكرورة.
لا يكف الشاعر المبتكر أبدًا عن آماله في التغيير، ومن خلال القصيدة، فقط القصيدة، يمكنه السعي إلى انتهاج الفن المجرد مسارًا للتمرد، وإيجاد البديل الأفضل، جماليًّا وإنسانيًّا، لتجسيد معنى الانفلات ككائن مكتمل، من روح وجسد ودم.
على الشعر النقي المخلص لكينونته التكريس لحرية القصيدة كقيمة، والرهان هنا على ما تفجره هذه القصيدة بابتكاراتها وأدواتها في حقلها النوعي الخاص، وهذا لا علاقة له بركوب موجات من قبيل: قصائد الثورة، منشورات الاحتجاج والمعارضة السياسية، الجسدانيات والكتابة اللادينية، وغيرها من القوالب الجريئة شكلًا، والمتمسّحة ظاهريًّا بالانفلات والتحرر، دون أن تنجز القصيدة ثوريتها من خلال العملية الشعرية المصفّاة من رواسب التبعيّة.
مثل هذه النظرة الواسعة، من شأنها تطوير مفهوم الشعر الجديد، والإبداع عمومًا، وإطلاقه ككيان مستقلّ بذاته، وكشخصية مكتملة الإرادة، وهذه الرؤية كفيلة بانتشال القصيدة من سقطات أدوارها الدعائية والإعلامية في التاريخ العربي، حيث كان الشاعر يؤدي وظيفة أخرى عادة، وكانت قصائده ردود أفعال موجهة لخدمة استقطابات وتوجهات جمعية (شاعر البلاط، شاعر المعارضة، شاعر القضية، شاعر الثورة، الخ).
التجريب والتحول
في رصده للمأمول من النص الشعري الجديد في ظل هذه التحولات، يشير الناقد شريف الجيار في تصريح لـ”العرب”، إلى أن القصيدة العربية المعاصرة استطاعت أن تستوعب النقلات الحضارية والتاريخية والتكنولوجية الجديدة، وتشتبك مع واقعها السياسي والاجتماعي والإنساني المتغير، باحثة عن العدل والحرية، بمفهومها الواسع، في ظل عالم كابوسي حاد، مفعم بالمتناقضات والفوضى، وخلخلة الثوابت، والسرعة الإيقاعية، معبرة عن موقف إنسان القرنين العشرين والحادي والعشرين، من واقعه المتشظي، وعالمه الفوضوي.
سعت القصيدة العربية إلى مواكبة هذا الواقع الجديد، ومفرداته الحياتية، بنص شعري مغاير، يقدم رؤيته للعالم، ويعيد تشكيله، وفق نص واعٍ بالمتغيرات العربية والدولية، ويجسد أنات الأنا الشاعرة، والنحن الجمعية، عبر أنساق شعرية رافضة للتقليدي، ومكرسة للمواجهة، والتثويرية، عبر شعرية منفلتة وجماليات متمردة على الثابت، باحثة عن التجريبي والمتحول.
وتجلت القصيدة رافضة ومحتجة فنيًّا، وانتقلت بأنساقها الشعرية، من العمودي إلى التفعيلي إلى قصيدة النثر، كي تطرح خطابًا مواكبًا للحظة التاريخية الراهنة، وإنسانها المتحير، الباحث عن وجوده، في ظل هويات متعددة، وسماوات مفتوحة، وثورات معلوماتية، وعولمة تكرس لأممية دولية.
ويوضح الجيار “نجد النص الشعري، ينتقل بالمتلقي من قصيدة الرفض المباشر، وصوتها الصارخ، في وجه القهر والظلم والدكتاتورية، بلا الناهية، الثورية المواجهة الصادمة، في ‘لا تصالح’ لدى أمل دنقل، وغيره من شعراء الرفض، مثل إبراهيم طوقان ومظفر النواب وأحمد مطر، إلى قصيدة رفض واعية بواقعها الجديد، تستعين بأنساق جمالية ما بعد حداثية، تتكئ على الدرامية وتعدد الأصوات، وتقنيات البناء السَّردي، والتداخل مع الأنواع الأدبية الأخرى، والإفادة من مفردات اللغة السينمائية البصرية، والأشكال الهندسية، والرسومات، ولن المضارعة، والمفارقة الساخرة، وصيغ السؤال الوجودي الرافض للواقع”.
هذه القصيدة الجديدة، تمضي كذلك صوب الإفادة من التكنولوجيا، وواقعها الافتراضي، حيث ظهرت النصوص التفاعلية الرقمية، التي تظفر الورقي بالحاسوبي، وكلها فضاءات جديدة منفلتة ومتمردة، تجلى فيها الرفض، بوصفه جمالية متجاوزة، تدفع بالمتلقي، والجمهور ووعيه، نحو تأويلية متعددة للنصوص. ومن ثم فنحن حيال قصيدة واعية، تمتلك حساسية بواقعها العربي والعالمي الجديد، راصدة لواقعها الاجتماعي، وإنسانه الجديد، الذي يعيش في واقع، يمتلك أدوات جديدة، وفق إيقاع سريع ومختلف.
يوضح الشاعر والمترجم عاطف عبدالمجيد، لـ”العرب”، أنه بعيدًا عن التأريخ والبحث والتقصي، يمكن القول إن الشاعر والمبدع عمومًا، يولد رافضًا لكل ما يرى أنه قد يكبّل حريته، سواء على المستوى الإنساني أو المستوى الإبداعي، طامحًا وطامعًا في أن يسهل له الانفلات من كل ما قد صنعه السابقون وجعلوه من الثوابت التي لا ينبغي لأحد أن يمسسها بسوء، ويريدون له ألا يتزحزح عن مكانه قيد أنملة.
على الشعر النقي المخلص لكينونته التكريس لحرية القصيدة كقيمة، والرهان هنا على ما تفجره هذه القصيدة بابتكاراتها وأدواتها في حقلها النوعي الخاص
وربما لا يظهر رفض الشاعر لهذا دفعة واحدة، بل يأتي على هيئة قطرات متتالية، بداية من رفض القيود التي يرى أنها تحد من حريته وانسياب إبداعه، إلى رفض كل ما يقيّد حريته ويقمع فكره وإبداعه وآماله وأحلامه.
وينفلت الشاعر من قيود فنه الإبداعي أو ينفلت داخلها، متحولًا إلى فن آخر يحمل اسمه السابق لكن بمواصفات جديدة تمامًا لم تكن من قبل، كانفلات الشعراء من القصيدة العمودية إلى التفعيلية ثم إلى قصيدة النثر.
وقد انفلت الشعراء من الاستسلام لأغراض الشعر التي كانت في الماضي، ثم تمردوا على قواعده وأوزانه مثلما تمردوا على واقعهم المعيش الذي رأوا فيه عائقًا أمام حياتهم وإبداعهم. وها نحن نصل الآن إلى ثورة على كل فنون الكتابة والإبداع، وكادت الحواجز تتلاشى جراء هذه الثورة الفنية في مجال الكتابة والإبداع، التي شملت معظم الفنون الإنسانية، إذ لم يستطع الفنان أن يرضخ كثيرًا تحت سوط القواعد المكبلة والتقاليد الجامدة التي عطلت سريان مجرى نهره الإبداعي.