كيف تحوّل الحب إلى كراهية بين سيّدة الشاشة العربية وجمال عبدالناصر

احتلت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، مصريا وعربيا، مكانة لم تحتلها فنانة أخرى في عالم السينما والتلفزيون طوال القرن العشرين، حيث حملت أعمالها قضايا الإنسان المصري والعربي في تشابكاتها مع الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي. لكن هناك الكثير من الخفايا التي أحاطت بالفنانة خاصة حول هروبها من مصر وعودتها إليها بعد خمس سنوات، كما تبيّن مذكراتها المنشورة أخيرا.
كان أداء فاتن حمامة لأدوارها يتّسم بالرقي في مختلف مراحلها والشخصيات التي جسدتها، فقبل مرحلة الخمسينات ظهرت في 30 فيلما حيث كان المخرجون يسندون لها دور الفتاة المسكينة البريئة، ولكن هذا تغير مع بداية الخمسينات.
في الخمسينات، ونتيجة التوجه العام في السينما المصرية نحو الواقعية، بدأت الفنانة في تجسيد شخصيات أقرب إلى الواقع ففي فيلم “صراع في الوادي” (1954) جسدت شخصية مختلفة لابنة الباشا المتعاطفة مع الفقراء والمسحوقين، وفي فيلم “الأستاذة فاطمة” (1952) مثلت ابنة الطبقة المتوسطة الطالبة في كلية الحقوق والتي تؤمن بأن للنساء دورا يوازي دور الرجال في المجتمع، وفي فيلم “إمبراطورية ميم” (1972) مثلت دور الأم المسؤولة عن عائلتها في ظل غياب الأب، وفي فيلم “أريد حلا” (1975) جسدت دور امرأة معاصرة تحاول أن يعاملها القانون بالمساواة مع الرجل، وفي عام 1988 قدمت مع المخرج خيري بشارة فيلم “يوم حلو يوم مر” ولعبت فيه دور أرملة في عصر الانفتاح والمبادئ المتقلبة.
انطلاقا من الاحتفاء بتسعينية ميلادها قام الناقد والمؤرخ السينمائي أشرف غريب بإصدار مذكراتها من مركز الهلال للتراث بمؤسسة دار الهلال الذي يترأسه، باعتبارها (فاتن حمامة) هي ابنة أصيلة لدار الهلال، على صفحات إصداراتها ظهرت صورتها للمرة الأولى ومن إحدى مسابقاتها تم اكتشافها، وعرفت طريقها نحو الشهرة والمجد، وعلى صفحات إحدى مجلاتها كتبت للمرة الأولى والأخيرة مذكراتها، وبسبب مواقفها في واحدة من أحرج فترات مصر السياسية أقيل رئيس تحرير إحدى مجلات الدار وجيء بآخر.
أسرار الفن والسياسة
يقول غريب في تقديمه للمذكرات “منذ أن أطلت علينا تلك الطفلة ذات ‘يوم سعيد’، لتخطف الكاميرا والقلوب من النجم محمد عبدالوهاب، ثم نجحت في الحفاظ على هذه المكانة الخاصة طوال مشوارها الفني حتى أضحت دون سواها ‘سيدة الشاشة العربية’، وتأمل معي هذا اللقب الذي اتفق عليه الجميع منذ عشرات السنين، لم يمنحوها لقب ‘نجمة الجماهير’ أو ‘نجمة الشباك’ أو غير ذلك من الألقاب الدعائية الرنانة، فالجماهير تتغير ويتبدل معها نجومها ونجماتها، ونجم الشباك لا يصح أن يكون كذلك في كل مراحله الفنية، فضلا عن المغذي التجاري للقب الذي قد لا يتوافق مع وجهة النظر النقدية تجاه نجم الشباك هذا”.
ويضيف ” أما ‘سيدة الشاشة العربية’ فهو لقب أو وصف دائم ومستمر غير مرتبط بمرحلة فنية أو عمرية، وغير منسوب للجمهور وحده أو للنقاد دون سواهم، وهو أيضا لقب غير قابل للسحب أو تجريد صاحبه منه، إنه صك منحه كل المشاهدين جمهورا ونقادا لهذه المرأة التي احترمت المانح، فتحملت مسؤوليات هذه المكانة الخاصة”.
ويتابع الناقد “أي مكانة إذن لامرأة بدأت مشوارها بعفوية الطفلة الواعية بما تفعل، وأنهته بحكمة السيدة الناضجة التي خبرت الحياة واستوعبت كل ما كان يدور حولها، عايشت فاتن منذ مولدها عام 1931 ثلاثة ملوك، أحدهم لم يحكم، وتسعة رؤساء جمهورية، ثلاثة منهم مؤقتون، وفترتين انتقاليتين وحروبا عالمية وإقليمية وثلاث ثورات غيّرت وجه مصر والمنطقة بأسرها، وهي عبر كل هذا الزمان راسخة القدمين بارعة الحضور الذي لا تأخذ منه الأيام والسنون، قادرة على التأثير في الحياتين الفنية والاجتماعية”.
ساندت فاتن حمامة نجوما، وكسرت تابوهات، وغيّرت بأفلامها قوانين، ووجهت بفنها – في الكثير من الأحيان – الرأي العام ولونته. فقد أثْرت إذن وأثَّرت، وبين الإثراء والتأثير استحقت أن تكون نجمة عصر فني جميل هي عنوانه الأكبر.
فاتن حمامة بعد مغادرتها مصر تعرضت لحملة تشويه منظمة وممنهجة شاركت فيها مجموعة من الصحافيين
وعلى الرغم من أن المذكرات حافلة بالأسرار انطلاقا من اكتشافها ومشاركتها في فيلم “يوم سعيد” مع محمد عبدالوهاب، ومرورا بنص رسائلها للفنانة نادية لطفي في فترة نكسة 1967 وانتهاء برحيلها، فإننا هنا نتوقف عند الجانب السياسي حيث تكشف حمامة بالأسماء أبطال مشهد خروجها من مصر عام 1965، ولماذا تغيرت نظرتها إلى عبدالناصر بعد أن كانت تعتبره مبعوث السماء لإنقاذ مصر؟ وحقيقة دور أم كلثوم ويوسف إدريس في محاولة إعادتها إلى القاهرة؟ وماذا كانت تفعل بأوروبا في سنوات الغربة ومن هي السيدة التي كانت سببا في رجوعها؟ وهل صحيح أنها انتظرت رحيل عبدالناصر حتى تقرر إنهاء غربتها والعودة إلى الوطن؟
يقول غريب “لم تكن فاتن حمامة محبّة يوما للسياسة ولا للحديث فيها، صحيح أنها لم تنفصل عن الاهتمام بقضايا وطنها أو عن همومه، لكنها كانت دائما حريصة على ألا تنزلق إلى دهاليز السياسة رغم أنها عاصرت ملوكا ورؤساء متعاقبين، وعايشت ما يزيد على ثمانين عاما كانت من أشد فترات التاريخ المصري حساسية واضطرابا، وصحيح أيضا أنها شاركت في مشاريع قطار الرحمة وتسليح الجيش المصري وأسبوع الشفاء وتمريض الجنود أثناء وأعقاب حربي 1956 و1973 لكن ذلك كان بدوافع وطنية بحتة بعيدا عن الانتماءات والاستقطابات التي تعرفها دائما لعبة السياسة”.
ويتابع “مع ذلك فقد وجدت فاتن نفسها ذات يوم في صيف 1965 منغمسة في قلب لعبة السياسة، وكان عليها أن تتخذ القرار الصعب، وتدفع ثمنا لهذا القرار خمس سنوات من الغربة بعيدا عن مصر والكثير من الملاحقات التي استهدفت تشويه صورتها وصورة زوجها في ذلك الوقت الفنان عمر الشريف”.
ويسرد غريب كيف استيقظ عشاق فاتن حمامة ومنتجو السينما فجأة ذات صباح في يوليو 1965 ليكتشفوا أن سيدة الشاشة قد غادرت مصر في الليل دون سابق تمهيد. وظن الجميع أنها مجرد رحلة اعتادت عليها فاتن لزيارة زوجها في ذلك الوقت عمر الشريف الذي كان يحقق نجاحا طيّبا في السينما العالمية، لكن غيبتها طالت وطال معها صمتها عن أسباب تلك الغيبة، وحتى حينما عادت بعد خمس سنوات كانت الإجابة المشهرة في وجه سائليها أنها لأسباب العائلية: عمر بين أوروبا وأميركا، ونادية وطارق في مدارس لندن، وعملها بين بيروت وأكثر من عاصمة أوروبية، فأنى لها أن تقيم في مصر؟
وبطبيعة الحال لم تكن تلك هي الحقيقة التي أبقت عليها الفنانة، واقع الأمر وبعد مرور كل هذه السنوات أن ملابسات خروج سيدة الشاشة من مصر والظروف التي أحاطت به يندرج تحت عنوان كبير هو سيطرة الخوف وغياب الحريات في مصر، وعنوان أكبر اسمه صلاح نصر رئيس مخابرات عبدالناصر.
غربة اختيارية

سيدة الشاشة العربية لقب أو وصف دائم ومستمر غير مرتبط بمرحلة فنية أو عمرية وغير منسوب للجمهور وحده
يشير غريب “حينما قامت ثورة يوليو كانت فاتن حمامة في بدايات العشرينات من عمرها، وبحماس الشباب وبوازع من فطرة الوطنية آمنت بمبادئ الثورة وكانت محبة لقائديها نجيب ثم عبدالناصر، والأخير تحديدا كان بالنسبة إليها كالإله، ومبعوث السماء لإنقاذ مصر، واستمرت الحال كذلك حتى السنوات الأولى من الستينات إلى أن لاحظت تغيّرا في المناخ العام وتضييقا في مجال الحريات، وبدأت تسمع عن زملاء يؤخذون في منتصف الليل ويختفون ويوضعون في السجون، وعن زملاء وزميلات يتم الضغط عليهم للعمل مع جهاز صلاح نصر”.
يلفت إلى قول فاتن “عايشت ظلما كبيرا تعرض له الكثيرون من حولي، وتعرضت للتضييق في حركتي وفي سفري للخارج وأشياء أخرى، إلى أن اتصل بي شقيق فنان كان يعمل بهيئة الاستعلامات (يبدو أنها تقصد مرسي سعد الدين شقيق الموسيقار بليغ حمدي)، وكنت قد انتهيت من تصوير فيلمي ‘الحرام’ و’حكاية العمر كله’، والمشاركة في مسابقة مهرجان كان السينمائي الدولي، في هذا الاتصال طلب الرجل تحديد مقابلة مع أحد رجال المخابرات لأمر هام، ولم يكن أمامي سوى الترحيب بزيارته”.
وأضافت الفنانة “جاءني الرجل بالفعل وأخذ يحدثني عن أمور تخص أمن البلد والتضحيات التي لا بد أن نقوم بها جميعا، وطلب مني أشياء محددة من بينها وضع ميكروفونات في شقتي لتسجيل محادثات كل من يزورني، وترك لي مجموعة من الكتب عن
الجاسوسية طلب مني قراءتها للتعرّف على طبيعة العمل المطلوب، وقال نحن نثق بك ونعرف أنك لن تتكلمي رغم أن لك أشقاء يتكلمون، ونحن نتركهم لأجل خاطرك، شعرت ليلتها بانقباض شديد، وحينما بدأت في قراءة هذه الكتب زاد انقباضي وخوفي من قذارة ما قرأت ومما ينتظرني في هذا الملف أيا كان موقفي من ذلك العرض”.
وتابعت “لم أنم لمدة أسبوع، استشرت مجموعة من الأصدقاء أثق بهم من بينهم المخرج حلمي حليم وشقيقه أسعد حليم وكانا ضيفين دائمين على سجون عبدالناصر، فأجمعوا على أن هؤلاء لن يتركوني، وبعد أسبوع اتصل بي رجل المخابرات فاعتذرت له وأكدت له أنني إذا سمعت أي إساءة لمصر لن أتردد في إبلاغهم، وبعدها زادت المضايقات لي ولاسيما في ما يتعلق بالسفر إلى الخارج، ونصحني أحد الأصدقاء (لم تشأ الإشارة إلى أنه الكاتب الصحافي علي أمين) بضرورة مغادرة مصر قبل أن تزيد الضغوط، بل وساعدني بالفعل على الخروج من مصر في وقت قياسي عن طريق السيد زكريا محيى الدين الذي كانت تربطني بأسرته علاقة عائلية”.
ويرى غريب أن الذي لم تقله فاتن حمامة ونكشف عنه هنا أنها بعد مغادرتها مصر والإفلات من قبضة صلاح نصر تعرضت لحملة تشويه منظمة وممنهجة شاركت فيها مجموعة من الصحافيين سواء عن جهل أو عن معرفة، وأن هذه الحملة كانت سببا في إقالة رئيس تحرير مجلة “الكواكب” القاهرية الشهيرة من منصبه على يد الكاتب الصحافي أحمد بهاء الدين رئيس مجلس إدارة مؤسسة دار الهلال في ذلك الوقت.
كما سمح الناقد سعد الدين توفيق رئيس تحرير مجلة الكواكب حينئذ في يوليو 1965 بنشر مجموعة من الرسوم الكاريكاتيرية لرسام الكاريكاتير عبدالسميع يتهم فيها فاتن حمامة باللهاث وراء زوجها عمر الشريف في عواصم أوروبا لمنعه من الارتماء في أحضان الحسناوات أو لتقليده في الوصول إلى السينما العالمية، وساء أحمد بهاء الدين ما رآه على صفحات إحدى مجلات مؤسسته ينال من فاتن حمامة التي كان يكن لها كل الاحترام والمودة، فقرر على الفور إقالة سعد الدين توفيق وتعيين الناقد الشاب وقتها رجاء النقاش رئيسا لتحرير الكواكب.
ويوضح الناقد “المهم أن فاتن أمضت في أوروبا خمس سنوات لم تتوقف خلالها عن ممارسة نشاطها الفني فقدمت عدة أفلام بعيدا عن مصر من بينها فيلم ‘رمال من ذهب’ في المغرب، و’الحب الكبير’ في لبنان، لكن حنينها للعودة إلى مصر لم يكن يكبحه سوى إحساسها بالخوف من المصير الذي ينتظرها حتى بعد هزيمة 1967 والشعور بالمرارة الذي عاشته في الغربة”.
العودة إلى مصر

يحكي غريب كيف قابلت فاتن حمامة أم كلثوم في باريس، وطلبت منها العودة وأنها تضمن لها حرية الحركة والخروج والدخول من وإلى مصر، فردت عليها فاتن بجملة واحدة “كتر خيرك” وزادت النداءات من داخل مصر بضرورة عودة سيدة الشاشة من بينها نداء وجهه لها الكاتب يوسف إدريس عبر أثير الإذاعة المصرية، وآخر عن طريق الأديب عبدالحميد جودة السحار الذي كان يرأس مؤسسة السينما، فكان ردها أنها تجد مشقة وعانت في سفرها من وإلى مصر، فسعت كل من أم كلثوم والسحار لدى وزارة الداخلية عام 1968 وبعد اختفاء صلاح نصر لاستصدار موافقة الوزارة على سفر فاتن دون موافقة زوجها عمر الشريف، ومع ذلك لم يطمئن قلب فاتن حمامة ولم تعد إلى مصر إلا في عام 1970.
ويلفت غريب إلى أن هناك معلومة مستقرة عن أنها لم تعد إلى مصر إلا بعد وفاة الرئيس عبدالناصر في سبتمبر 1970 وهذا غير صحيح، فقد وصلت فاتن إلى القاهرة في فبراير 1970 في زيارة قصيرة لمدة عشرة أيام كانت استكشافية لما يمكن أن تواجهه في حال عودتها إلى الوطن، وبمجرد أن اطمأنت أعادت ترتيب أمورها العائلية لاسيما وأن ابنيها نادية وطارق كانا يدرسان في لندن، ونزلت أثناء هذه الزيارة الاستكشافية في فندق هيلتون تأكيدا للجميع بأن زيارتها مؤقتة.
ويستدرك لكنها لم تعد بالفعل للإقامة الدائمة والمستقرة بشقتها في عمارة ليبون إلا بعد وفاة الرئيس عبدالناصر وتولي الرئيس السادات رئاسة الجمهورية وبعد أن شاهدت بكاء إحدى المصريات قابلتها بالصدفة في لندن فقامت باحتضانها في الشارع قائلة لها “وحشتينا يا فاتن.. ارجعي بقى” فعادت الفنانة إلى بلدها.
وهكذا طوت سيدة الشاشة واحدة من أسوأ فترات حياتها عاشت خلالها خمس سنوات في غربة اختيارية ثمنا لحريتها التي لم تكن على استعداد للتنازل عنها، ورفضا للانغماس في لعبة السياسة القذرة احتراما لنفسها ولتاريخها المضيء الذي ظلت تحافظ عليه حتى آخر يوم في حياتها.