كورونا يضع الأسرة المصرية في اختبار مع طبيبها

دعمت وزارة الاتصالات المصرية مبادرة لتقديم مليون استشارة طبية عبر الإنترنت والهاتف في الفترة الأخيرة، كي لا تضطر الأسر إلى زيارة الطبيب والتقاط عدوى كورونا، لتمتد بذلك آثار الفايروس إلى تحديد شكل العلاقة بين الأسرة وطبيبها.
القاهرة – عادة ما يكون لكل عائلة طبيب يملك سجلها الصحي، وتطمئن الأسرة لتشخيصه، ويتوارث أفرادها زيارته عند المرض كعادة تنتقل بشكل أفقي من جيل إلى آخر، وتتوطد أكثر إذا كان للطبيب نجل في الاختصاص ذاته يرث عيادته ومرضاه، غير أن جائحة كورونا وترت العلاقة ووضعت العديد من الأسر في اختبارات جديدة في علاقتها بالأطباء.
وأصبح ارتياد الأسرة عيادة طبيبها الخاص مع انتشار كورونا مخاطرة، فاستعاضت عنه بمكالمة هاتفية تلتمس تشخيصا لدى الطبيب الخبير بسجل العائلة، البعض نجحوا بالفعل في تلقي الاستشارة عبر الهاتف، وآخرون لم يجدوا الاستجابة والاستعداد ذاته من الطبيب لتقديم خدمته.
وبرزت أهمية الخدمة التي قدمتها وزارة الاتصالات لتوفير مساحة آمنة من الاستشارات الطبية للأسر التي ليست فقط مستعدة للتضحية بعلاقتها الوطيدة مع طبيب العائلة، بل حتى من التي ليس لديها تلك الرفاهية من الأساس.
وتعتمد الكثير من الأسر في القرى والنجوع والأحياء الشعبية بمصر في اختيارهم للطبيب على سعر الكشف الأقل، وتلجأ إلى المستشفيات الحكومية والمراكز الطبية الخيرية، وذلك حال ما لم تفلح معه وصفات المقربين أو الصيدلي.
ورفع كورونا استعداد الأسر لتقبل الخرافات والاعتماد على البحث غير الدقيق التماسا لعلاج ألم ما، بعدما بات تجنب الذهاب إلى الأطباء ليس قرارا تفرضه إمكانيات اقتصادية محدودة، بل يفرضه أيضا المنطق والعقل.
ووضعت التغيرات الجديدة مجموعة من التحديات في ما يتعلق بنشر الثقافة الطبية الصحيحة، في سجلّ حافل بكثير من عدم الثقة بين المنظومة الطبية والأسرة، ما جعل خيار الاستغناء عن الأطباء أكثر قابلية من دول أخرى تنتشر فيها الثقافة الطبية على نحو واسع.
عادت الحساسية الموسمية لجسد إلهام محمد (53 عاما) مصحوبة بألم ثقيل وضيق في التنفس، مع تاريخ مرضي جالت به من قبل على أطباء في منطقتها السكنية بجنوب القاهرة، لكن قلقها من التقاط عدوى إذا زارت أحدهم أو قصدت مستشفى جعلها تختار التعايش مع الألم، وبطبيعتها فهي من النوع الذي يعتقد أن الأطباء دائمو التهويل وأن الطب تجارة تعتمد على الوصفات.
تعايشت إلهام مع الألم لأيام حاولت خلالها التأقلم دون فائدة، حتى قرأ أحد أبنائها عن مبادرة “مليون استشارة مجانية” وقام بتحميل التطبيق.
اعتبرت الأم المسألة مزحة، كما أنها غير راضية عن أداء أطباء منطقتها ممن يسارعون في إنهاء الكشف لاستقبال مريض آخر، ولم تقتنع في البداية أن استشارة عبر الهاتف قد تجدي نفعا.
تشير إلهام في حديثها لـ”العرب”، إلى أنها تحدثت مع الطبيب وذهلت لصبره وسؤاله عن أدق التفاصيل، وشرحت له المرض ثم أخذ نجلها الهاتف لكتابة العلاج، وقالت “الخدمة فاقت توقعاتي”.
واتصلت إلهام بأقاربها تخبرهم عن الخدمة المجانية التي تلقتها وساعدت في تحسين حالتها الصحية دون حاجة لزيارة الطبيب، وأقنعتهم بخوض التجربة، خصوصا أنهم يشكون من أعراض كثيرة وعادة ما يتعايشون معها أو يتناولون الأدوية والمسكنات.
تعتمد حملة مليون استشارة على تطبيق “الطبي”، الذي يسمح للمشترك بالاستفسار خلال عدد محدد من الاستشارات مجانا، في محادثة كتابية أو في اتصال هاتفي خلال 24 ساعة، وبعدها تصبح الخدمة مدفوعة الأجر بما يعادل 1.5 دولار للاستشارة.
وانتشرت كثير من المجموعات التي تعرض الخدمات الطبية على المستخدمين مجانا، وسط إقبال من أسر تنحاز إلى خيار الأمان وعدم تعريض نفسها للعدوى، مقابل التضحية بخيار الخبرة التي يملكها الأطباء عن حالاتهم.
وقال الطبيب عبدالله فؤاد محمود، أحد المشاركين في حملة مليون استشارة طبية لـ”العرب”، إن الإقبال على المبادرة كبير، ويتلقى شخصيا عشرات الاستفسارات يوميا من مناطق مختلفة.
وأوضح صعوبة التشخيص دون فحص، لذا لا يبت في كافة الحالات، فلا يصف علاجا سوى لحالات لديها تاريخا مرضيا يؤهله لمعرفة أسباب الأعراض الحالية، كما يسأل عن الأدوية التي سبق وأن أخذها المريض، وفي حالات أخرى يكون رده على المتصل بضرورة الذهاب إلى مستشفى أو عيادة للقيام بالفحوصات اللازمة.
ويقيم الطبيب محمود في محافظة المنوفية، شمال القاهرة، حيث تنتشر عادات التداوي بطرق الطب البديل من أعشاب ووصفات غير ناجعة، واعتقادات راسخة حول تهويل الأطباء في تشخيص الأمراض لجني الأموال، علاوة على ربط التداوي بالدين.
واعتاد الطبيب المصري أن يواجه تلك المعتقدات في محيطه، لكنه فوجئ بأنها لا تقتصر على القرى والنجوع، حيث أخبرته إحدى الحالات عن فاعلية “الحجامة” في الشفاء من ألم في الصدر وقرارها بالانقطاع عن تناول العلاج بعدها.
وأضاف أن فايروس كورونا أتاح له لأول مرة خوض تجربة التشخيص أونلاين، وأكسبته خبرة في الصبر والاستماع إلى أدق تفاصيل شكاوى المرضى، وتنامت خبرته في التشخيص عن بعد.
لكن التجربة التي فرضها كورونا على الأسر لم تلق الرضا نفسه لدى الجميع، فالبعض يرون في التشخيصات الإلكترونية لعبة تخمين ولا يعترفون بجدواها.
وتحدث أحمد عبود، موظف بإحدى المؤسسات الحكومية، عن تجربته الشخصية، موضحا أنه مرض أكثر من شخص في الأسرة خلال الأسابيع الماضية، واتصلوا بعدد من الأطباء هاتفيا وتلقوا التوجيهات التي ساعدت على تحسنهم.
وقال، إنه لم يفكر في اللجوء إلى الاستشارات الإلكترونية، فذات مرة صادف طبيبة تعرض خدمتها عبر تويتر، قرأ الأسئلة والردود وشعر أنها عامة للغاية وأقرب للتخمين، ولا يمكن أن تتحول مهنة الطب إلى سؤال وجواب دون فحص آني ومباشر. ودونت مستخدمة للفيسبوك شكواها من الشعور بتوتر دائم ورغبة في البكاء وإحساس بالضيق، ورد طبيب نفسي ناصحا مريضته الإلكترونية بالخروج والتنزه وإحاطة نفسها بأشخاص إيجابيين، وبدت الإجابة غير شافية، لم تقتنع السائلة وردت “كيف أخرج الآن في ظل أزمة كورونا؟”.
ووضع كورونا بعض الأسر في اختبارات كثيرة، من ضمنها علاقتها بمنظومة الصحة، ومن المبكر التكهن بمآلات التغيرات التي سوف تصاحب الجائحة، وما إذا كانت العائلات تميل نحو ترسيخ تضمين التكنولوجيا في الفحوصات أم تجنبها.
وتوقع أحمد طارق، وهو طبيب في معهد القلب بالقاهرة، أن تأتي التغيرات في صالح الطبيب، لأن المجتمع بات أكثر تقديرا لدور الأطباء والعاملين في المنظومة الطبية، وقبل كورونا كانوا يعانون من تكرار الاعتداء عليهم من أهالي المرضى، والآن بات الأطباء الملاذ الأول.
ويعج صندوق الوارد لدى طارق بعشرات الأسئلة من أصدقائه لتشخيص أعراض ما، علاوة على المكالمات اليومية وتخصيصه لجزء من وقته لمجموعات في فيسبوك تقدم الاستشارات الطبية مجانا.
ويرى أن تواجد الأطباء إلكترونيا يحمي الكثير من الأسر من الغوص في دائرة الاستسلام للوصفات غير الطبية وفتاوى غير المختصين، حتى إن لم تكن الطريقة المثلى لتقديم خدمة طبية، فهي الملائمة للمرحلة الآنية.