كورونا يجبر البنوك المركزية على إسقاط "المحرمات" المالية

أزمة الفايروس تغير قواعد إقراض للبنوك المركزية للحكومات وسط مخاوف من التمادي في إخضاع المصارف المركزية.
الأربعاء 2020/04/22
إغراق الاقتصاد بالسيولة لا يمثل حلا

دخلت العلاقة بين البنوك المركزية والحكومات في منطقة جديدة، كانت تعتبر من المحرمات، وهي لجوء الحكومات مباشرة إلى الحصول على التمويل من البنوك المركزية، وتمكنت الظروف الاستثنائية الحالية من إخراس الأصوات المحذرة من العواقب المالية الخطرة لتلك السياسات.

نيويورك - فرضت أوضاع الاقتصاد في ظل انتشار فايروس كورونا المستجد (كوفيد – 19) إعادة كتابة قواعد إقراض للبنوك المركزية وقيود اقتراض الحكومات، التي ترسخت خلال العقود الماضية.

وأصبح من المقبول نسبيا في هذه الأوضاع الاستثنائية، تحطيم المحرمات الموروثة (التابوهات) التي يفترض أن تقيم الخطوط الفاصلة بين سياسات الاقتراض الحكومية والبنوك المركزية.

وتعرف آليات لجوء الحكومات إلى الاقتراض من بنوكها المركزية لتمويل الإنفاق العام باسم “التمويل النقدي” وهي علاقة خطرة، أكدتها وقائع التاريخ من جمهورية فايمار الألمانية في ما بين 1918 و1933 وصولا إلى ما حدث في الكثير من دول أميركا اللاتينية والكثير من بلدان العالم الثالث.

ويؤدي اقتراض الحكومات من البنوك المركزية عادة إلى انحدار سريع، حين تسمح تلك العلاقة بتمادي السياسيين في الاعتداء على استقلال البنك المركزي.

ويؤدي توفر التمويل السهل عادة إلى ارتفاع هائل في معدل التضخم نتيجة قيام الحكومة بضخ السيولة النقدية بحرية كبيرة في مختلف قطاعات الاقتصاد.

وخلال العديد من الأزمات المالية والاقتصادية السابقة، كان هناك التزام بمنع التمويل المباشر للحكومات من قبل البنوك المركزية، رغم أن تلك البنوك كانت تشتري كميات كبيرة من سندات الخزانة لتمويل الحكومات، لكنها كانت تشتري تلك السندات من السوق الثانوية، أي إنها تشتريها من مستثمرين وليس من الحكومات مباشرة.

أما اليوم فقد أصبحت أعداد متزايدة من خبراء السياسة النقدية تعتقد أنه لا بد من تجاوز سياسة الفصل النقدي بين الحكومة والبنك المركزي، في ظل أزمة وباء عالمية كبرى، وظهور ضغوط غير مسبوقة على ميزانيات الحكومات، وتراجع قدرة سوق السندات على تمويل الحكومات.

ونقلت وكالة بلومبرغ للأخبار الاقتصادية عن وليم بوايتر العضو السابق في لجنة السياسة النقدية في بنك إنجلترا المركزي قوله إن “الاستقلال لا يعني أنه يجب قول: لا، عندما يطلب منك التمويل المباشر للحكومة، وإنما يعني القدرة على قول: لا”.

ويرى بوايتر، الذي يشغل منصب كبير المحللين الاقتصاديين في مجموعة سيتي غروب المصرفية الأميركية حاليا، إن الرد الواجب الآن من البنوك المركزية على طلبات الحكومة هو نعم وليس لا.

خبراء يدعون البنوك المركزية إلى عدم رفض تمويل الحكومات حاليا رغم المخاطر وتحذيرات الخبراء من عواقب العملية

ويضيف أنه في ظل ضخ البنوك المركزية للأموال في محاربة فايروس كورونا المستجد، لا يجب أن ينزعجوا من فكرة شراء سندات الخزانة مباشرة. ويوضح أن البنوك المركزية يمكنها شراء السندات الحكومية مباشرة، بطريقة لا تعني سوى التخلص من الحلقات الوسيطة فقط.

وفي الأسبوع الماضي قام بنك إنجلترا المركزي بإجراء يبدو قريبا من هذا التصور عندما مدد في إمكانية السحب على المكشوف لتشمل الحكومة، وهو ما أثار اهتمام مراقبي تحركات البنوك المركزية.

وكان محافظ البنك المركزي البريطاني قد استبعد قبل ذلك بأيام قليلة إمكانية استخدام ما يعرف باسم “التمويل النقدي” ردا على دعوة أحد النواب السابقين لمحافظ البنك إلى قيام البنك المركزي بشراء السندات الحكومية مباشرة.

وبحسب مسؤولين بريطانيين فإنه سبق للحكومة استخدام آلية السحب على المكشوف من البنك المركزي في أوقات الحروب والأزمات، وكان آخر مرة تم فيها اللجوء إلى هذه الآلية بعد تفجر الأزمة المالية عام 2008.

لكن وكالة بلومبرغ ترى أن التاريخ القريب للسياسة النقدية مليء بالتحركات الاستثنائية التي تستهدف سد الفجوات المالية في أوقات الأزمات. لكنها تحذر من أنه قد يصبح من الصعب التخلي عنها بعد ذلك، إضافة إلى أنها قد تؤدي إلى زيادة التشابك بين أموال الحكومات وأموال البنوك المركزية.

على سبيل المثال بدأ بنك اليابان المركزي شراء كميات كبيرة من السندات الحكومية منذ عقدين من الزمان للمساهمة في إخراج الاقتصاد من دائرة الكساد. والآن أصبحت ميزانية البنك المركزي أكبر من الاقتصاد الياباني نفسه، وأصبح يمتلك حوالي 43 في المئة من إجمالي السندات الحكومية اليابانية.

كما تبنت معظم البنوك المركزية في الدول الصناعية الأخرى سياسة التخفيف الكمي النقدية التي تبناها البنك المركزي الياباني لإخراج الاقتصاد من دائرة الكساد.

روسيل جونز: قد يختفي الحاجز بين التمويل الحكومي والبنوك المركزية قريبا
روسيل جونز: قد يختفي الحاجز بين التمويل الحكومي والبنوك المركزية قريبا

لكن ذلك أدى إلى جعل اليابان صاحبة أكبر دين عام في العالم حيث يعادل نحو 225 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وهو مرشح للمزيد من الارتفاع بعد توسيع سياسة التيسير النقدي.

وقال روسيل جونز الشريك في شركة “لليويلينكونسالتنغ” للأبحاث والاستشارات ومقرها في لندن إن “بنك اليابان رسم الطريق في أواخر التسعينات ونحن سرنا على خطاه… لقد كان تحولا تقدميا. نحن نمضي نحو التمويل النقدي العلني”.

وأضاف أنه قد يتم تجاوز الحاجز بين التمويل الحكومي والبنوك المركزية قريبا جدا، إذا استمر تدهور الاقتصادات بسبب أزمة الوباء وسوف “نرى البنوك المركزية تقوم بتمويل الحكومات مباشرة، وستفعل ذلك بشكل صريح، إنها مجرد مسألة وقت”.

ويرى توم أورليك كبير المحللين الاقتصاديين في خدمة بلومبرغ إيكونوميكس للتحليلات الاقتصادية إنه يمكن للبنوك المركزية الاستشهاد بما حدث أثناء الأزمة المالية العالمية الكبرى في ثلاثينات القرن العشرين لكي تقول إن شراء الأصول الحكومية (السندات) هو تنفيذ للسياسة النقدية بوسائل أخرى، من أجل تقليل تكاليف الاقتراض طويل المدى بهدف تشجيع القطاع الخاص على الاقتراض والتعافي من الأزمة المالية.

ويضيف أنه “في عام 2020 نحن لسنا أمام تمويل نقدي مباشر للعجز المالي في ميزانية الدول. وسوف تظل الحكومات هي المستفيد الأساسي من مشتريات البنك المركزي من السندات” كما هو الحال دائما.

والحقيقة أن هناك خوفا دائما من ترك آليات ضخ السيولة النقدية في الاقتصاد في يد السياسيين، الذين يسعون عادة وراء أهداف انتخابية قصيرة الأجل، إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى الإفراط في الإنفاق العام، الأمر الذي يؤدي إلى الإضرار بالاقتصاد على المدى الطويل نتيجة ارتفاع معدلات التضخم.

لذلك تجعل أغلب الدول المتقدمة سلطة ضخ السيولة النقدية في الأسواق في يد البنك المركزي وتضمن له الاستقلال عن السلطة السياسية في البلاد. ولهذا السبب أيضا يحذر بعض المحللين من أن الإفراط الحالي في ضخ السيولة النقدية يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار ويخلق مشكلات أكبر بالنسبة للبنوك المركزية.

ولكن أغلب المحللين الآن يرون أن المشكلة الأكبر والأحق بالتعامل هي خطر الكساد الاقتصادي بعد أن أدّى انتشار فايروس كورونا المستجد إلى تدمير النشاط الاقتصادي وإضعاف الطلب وهو ما يتطلب تدخلا قويا من البنوك المركزية.

10