كسر حلقة الوسطاء المفرغة في تونس

من منا في تونس لم يتضرر من الوسطاء. أغلبنا تعرض لذلك دون أيّ معرفة بالتفاصيل. كمستهلك تحصل على ما تريد من السوق تدفع ثم تذهب. مع تكرار العملية تجد جيوبك قد ثقبت بالفعل جراء الصعود الصاروخي للأسعار. تقاوم وتستميت في المقاومة ثم تستسلم للواقع. تشعر أن نقودك ومدخراتك عبارة عن سيولة بلا قيمة بسبب هذه الفئة. الأمر ذاته ينطبق على المزارع.
يغفل الكثيرون عن حقيقة تتمحور في كون حلقة الوسطاء المتنامية أو ما نطلق عليهم في تونس بـ”القشارة” أحد العوامل المغذية للتضخم. ماذا تنتظر الدولة حتى تعيد الاقتصاد إلى خدمة الصالح العام. هذا يستلزم حتما التساؤل حول الدور المفرط الذي يلعبونه في السوق، كما أن عددهم ليس معروفا بدقة.
إن غلاء الأسعار تخطّى كونه انعكاسا موضوعيا لتكلفة الإنتاج الزراعي أو النقل أو نتيجة ارتداد لصدمات خارجية، بل أصبح في الكثير من الأحيان نتاجًا مباشرًا لتوسّع نفوذ الوسطاء، الذين يضاعفون الأسعار من دون تقديم أيّ قيمة مضافة حقيقية للمستهلكين أو للمنتجين.
معركة كسر احتكار الوسطاء ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة، ولا مفر من معالجتها لجعل الاقتصاد أكثر عدالة وتوازنًا
الوسطاء أصبحوا في ظل ضعف آليات الدولة الحلقة الأقوى في سلسلة الإنتاج. هذا ما نراه ولا يستطيع أحد إنكاره. هؤلاء لا يزرعون ولا ينتجون ولا يضيفون في أغلب الحالات قيمة حقيقية، لكنهم يتحكّمون في التسعير، والتوزيع، بل وحتى في مصير السوق. هذه الهيمنة لا تعكس ديناميكية سوق حرة، بل تُجسّد اختلالًا بنيويًا يضرب في عمق الاقتصاد الغذائي.
هذا التشوّه في سلسلة التوزيع أدّى إلى تآكل سريع للقدرة الشرائية للتونسيين من جهة، وتراجع هامش أرباح المنتجين من جهة أخرى. ومن الضروري أن يتم كسر هذه الحلقة المفرغة، ويمثل إقصاؤهم من العملية بصيص أمل، ومساراً ينبغي استكشافه وتعزيزه بعزم.
غالبًا ما تفترض الأبحاث المتعلقة بالتجارة، بشكلٍ مُبسّط، أن المنتجين يبيعون مباشرةً للمستهلكين. ومع ذلك، يميل معظمنا إلى الشراء من شركة تُعيد بيع المنتجات سواء كان سوبر ماركت كبيرا، أو متجرًا صغيرًا، أو أكثر من الشراء من المنتج نفسه. في الواقع، في كل خطوة، تُفرض تكاليف وقد تُفرض هوامش ربح. لذا، يُعد فهم سلاسل الوساطة أمرًا أساسيًا لفهم الأسعار وتوافر المنتجات.
لمدة طويلة، وقفت سلسلة من الجهات الدخيلة بين المزرعة ومعدة المستهلك. فكل حلقة في السلسلة تأخذ حصتها، ما يؤدي إلى تضخم بشكل مصطنع دون تحسين جودة المنتجات أو توفرها بالضرورة. ويكافح المزارعون للحصول على تعويضات عادلة مقابل عملهم، في حين تشهد الأسر تضاؤلا في ميزانياتها لمواجهة تكاليف لا تعكس الواقع الاقتصادي.
مبادرة أسواق الفلاحين بمثابة استجابة مباشرة ومفيدة لهذا التشوه في السوق. فمن خلال السماح للمستهلك بالشراء مباشرة من أولئك الذين يقومون بإنتاج المحاصيل أو تربية المواشي، فإننا نتجاوز الهوامش التراكمية للوسطاء. والفائدة ستكون مضاعفة ضمن معادلة بسيطة: أسعار أكثر معقولية للمشترين ومكافآت أفضل للبائعين.
فكرة تمكين المستهلك من الشراء مباشرة من الفلاح تحمل في طياتها قوة هائلة لتفكيك هذا الاحتكار. فعندما يلتقي المنتج والمستهلك وجهًا لوجه تسقط الأقنعة الزائفة للوسطاء وتنكشف حقيقة الأسعار التي لا تبررها تكلفة الإنتاج الحقيقية. ويصبح التونسي بذلك قادرا على الحصول على منتجات طازجة وعالية الجودة بأسعار معقولة، بينما يحصل المنتج على عائد عادل يثمّن جهده وعمله.
المؤكد أن إطلاق أسواق الفلاحين ليس مجرد حل سحري، بل هو خطوة أولى تحتاج إلى دعم وتطوير مستمرّين. هذه الأسواق ليست مجرد أماكن للمعاملات. إنها مساحات للقاء والشفافية وتجديد الثقة بين المنتجين والمستهلكين. ومن الأهمية اعتماد نهج منهجي لتفكيك القوة المفرطة التي يتمتع بها الوسطاء بشكل حقيقي. ويتطلب هذا حتماً تدخل السلطات على عدة مستويات.
تطوير منصّات المبيعات المباشرة عبر الإنترنت يمكن أن يشكل حصنا قويا. فتتيح الأدوات الرقمية ربط المنتجين والمستهلكين. وتعتبر أنظمة الدفع الآمنة والحلول اللوجستية المناسبة ضرورية لضمان نجاح هذه المبادرات
أولا، من الضروري تعزيز وتوسيع شبكة أسواق المزارعين. ويتطلب ذلك تسهيل إنشائها، وتزويدها بالبنية الأساسية المناسبة، وضمان الترويج الفعال للمستهلكين. ويجب أيضًا تبسيط الإجراءات الإدارية لتشجيع المزيد من المنتجين على المشاركة.
ومن ثم، فإن تطوير منصّات المبيعات المباشرة عبر الإنترنت يمكن أن يشكل حصنا قويا. فتتيح الأدوات الرقمية ربط المنتجين والمستهلكين. وتعتبر أنظمة الدفع الآمنة والحلول اللوجستية المناسبة ضرورية لضمان نجاح هذه المبادرات.
هناك أمر آخر لا يقل أهمية، من الضروري دعم وتنظيم منظمات المنتجين، مثل التعاونيات. ومن خلال التجمع معا، يمكن للمنتجين اكتساب القوة التفاوضية، وتقاسم تكاليف التوزيع، والوصول إلى السوق بسهولة أكبر دون الاعتماد على الوسطاء التقليديين.
فرض تنظيم أكثر صرامة على قطاع التوزيع عامل اختراق آخر للوسطاء مع تنظيم الهوامش المفرطة ومكافحة الممارسات المناهضة للمنافسة مع ضمان قدر أكبر من الشفافية في تحديد الأسعار. وعلى الجهات المعنية القيام بدورها الكامل في ضمان الأداء السليم للسوق.
وأخيرا، فإن التغيير في عقلية المستهلكين أمر ضروري. يجب تشجيع الشراء المباشر وإعطاء الأولوية لسلاسل التوريد القصيرة مع تعزيز عمل المنتجين المحليين بالدعم المالي واللوجستي. ويمكن أن تلعب حملات التوعية دورا حاسما في هذا التغيير في السلوك.
معركة كسر احتكار الوسطاء ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة، ولا مفر من معالجتها لجعل الاقتصاد أكثر عدالة وتوازنًا. ومن خلال دعم المبادرات وتبنّي سياسات عامة جريئة يمكن لتونس أن تقدّم مستقبلا أكثر ازدهارا لمنتجيها وقدرة شرائية متجددة لمواطنيها.