كسر النمطية في جدارية السياحة التونسية

أثناء منتدى تونس للاستثمار 2024 قبل أسابيع، كانت علامات الرضى بادية على المسؤولين كون الموسم السياحي مزدهرا على غير العادة وجاء كما هو مخطط له. الدولة وكل الأطراف المعنية تنظر إلى هذا العام على أنه نقطة مفصلية للقطاع، وسيكون استثناء مع استهداف قدوم 10 ملايين وافد، بما فيهم المغتربون، مقابل 9.37 مليون عام 2023. كل هذا الكلام جيد، بيد أن الأرقام الجافة لا يمكن استيعابها وفهمها دون تحليل معمق للبناء عليها لاحقا، وعدم ترك أي شيء للصدفة.
في خضم تنافس إقليمي مع مصر والمغرب، ممزوج بوضع عالمي شديد التقلب، تجد السياحة في تونس نفسها حبيسة جدارية نمطية في قراءة مؤشراتها، من قبيل: الملايين من الزوار يتوافدون على البلد، والحجوزات مرتفعة، والموسم واعد، وغيرها. إنها مؤشرات تكاد تتردد بشكل شبه يومي في وسائل الإعلام وداخل مجتمع السياسيين والخبراء وبين أهل القطاع. هذا الجو من التفاؤل لا يحجب النقائص والتحديات التي يعيشها القطاع منذ أكثر من 13 عاما، بدليل أن السياحة أصبحت في المركز الثاني كأكثر مجال مدر للنقد الأجنبي بعد تحويلات المغتربين.
في الكثير من الأحيان كانت الأرقام تختلط بين سائح داخلي، وسائح قادم من الجزائر أو ليبيا، وذاك القادم من أوروبا أو من أي منطقة من الكرة الأرضية. هناك أيضا حركة نقل جوية هي بالأساس لليبيين يمرون بتونس، حيث يرفعون من عدد المسافرين دون أن يفيدوا سوق السياحة التونسية. مثل هذه القراءات ستساعد على الإعداد لمواسم قادمة. فماذا أعدت تونس لذلك؟
◄ على صانعي القرار أن يضعوا في الاعتبار أن استخدام تقنيات التحليل البياني بشكل محكم، كالتركيز على مقارنة الإحصائيات حسب الموسم، والفئات العمرية.. لفهم الاتجاهات بشكل أفضل
الأمر يستدعي تقليب صفحات سياحة ظلت حبيسة التفكير المعلب، رغم محاولات التجديد التي لا أثر فعليا لها في الواقع، فالسلطات تحتاج إلى متابعة دقيقة لهذا الموسم، وما يمكن البناء عليه من قراءة للمعطيات، لأن التجارب تثبت أن الصدمات مهما كان نوعها سواء اضطرابات داخلية أو كوراث طبيعية أو توترات جيوسياسية تعطي للحكومات فرصة للتعامل مع الضغوط المنجرة عنها لتخفيف التأثيرات السلبية على قطاعات تعد محركا رئيسا للنمو.
منذ الستينات، ركزت الدولة جهودها على تطوير السياحة الساحلية الجماعية. ومع نهاية القرن الماضي، اتجه التفكير إلى تنويع المنتج السياحي. وشكل استغلال الإمكانات التراثية والصحراوية نقطة انطلاق للتفكير في تطوير هذا المجال في إطار التنمية الجهوية، خاصة في المناطق الداخلية. وبعد أن زعزعت فوضى 2011 البلد، وما تلاه من أزمات الإرهاب وكوفيد وحرب أوكرانيا، ظل القطاع يبحث عن بوصلته، وهو اليوم يحاول محو الكليشيهات الزائفة عنه.
عندما أظهرت تونس، اعتبارا من أزمة الوباء، خسارة ما يقرب من ثلث السياح الوافدين إليها أو أكثر، فإن المقصود من الخطاب السياسي منذ ذلك الحين هو التعبئة. ولطالما شدد وزير السياحة محمد المعز بلحسين على أن الأولوية هي لإنعاش القطاع وتحقيق نسبة مئة في المئة من إنجازات سنة 2019 المرجعية من حيث الإيرادات والوافدين، لأن القضية في نظره حيوية، ولم يتوان عن التأكيد أن الحكومة تدرك ذلك تماما. نفس القصة مع منظمة الأمم المتحدة للسياحة عبر مديرها التنفيذي زوراب بولوليكاشفيلي، الذي يرى أن تونس بلد سياحي كبير، ويجب أن تظل كذلك رغم الأزمات.
الفهم الدقيق لأرقام السياح وأنماط حركة النقل يمكن أن يكون له تأثير كبير على كيفية تحضير السياحة لأي وجهة. لتوضيح الأمور بشكل أفضل يجب التأكيد على أن العمل على التمييز بين السياح والعابرين ترانزيت أمر مهم. من الضروري أيضا فصل الأرقام بين الفئات المختلفة للزوار لفهم أفضل للأنماط والاتجاهات. يمكن أن تساعد مثل هذه البيانات في تحديد الأسواق الأكثر أهمية والتركيز على الإستراتيجيات التي تجذب السياح من أسواق رئيسية.
◄ في خضم تنافس إقليمي مع مصر والمغرب، ممزوج بوضع عالمي شديد التقلب، تجد السياحة في تونس نفسها حبيسة جدارية نمطية في قراءة مؤشراتها
كذلك، تحديد النمط الحقيقي لديناميكية السفر لا يقل أهمية في تحديد الأهداف، إذ ينبغي التحقق من حركة النقل الجوي التي قد لا تنعكس بالضرورة على الفائدة المباشرة للقطاع، فحركة السفر التي تُظهر زيادة في عدد المسافرين من ليبيا قد لا تعني زيادة في السياحة التونسية، وبالتالي يجب قياس التأثير الفعلي للوافدين على الاقتصاد، مثل الإنفاق في الفنادق والمطاعم والمواقع الأثرية وغيرها، وليس فقط زيادة أعداد المسافرين.
ثم إن للمتابعة الدقيقة والتحليل المفصل والشامل للأرقام والبيانات تأثيرا بالغا على تطوير الإستراتيجيات السياحية. من المهم أن يتم التعامل مع المؤشرات بأبعاد أخرى تستند على الفصل بين مختلف أنواع السياح لتحسين التخطيط وتنمية القطاع بشكل أكثر فاعلية. فمثلا، سيساعد تصنيف الزوار بناء على أصلهم الجغرافي ونوع الزيارة في تحديد مصادر العوائد الحقيقية للقطاع والتعرف على الأسواق الأكثر أهمية.
فالتخطيط للمستقبل يمنح الدولة فرصة الاستفادة من هذه البيانات بحيث يمكن أن تكون مفيدة في التخطيط لمواسم سياحية قادمة. مثلا، يمكن تطوير إستراتيجيات تسويقية تستهدف الأسواق ذات الأهمية مع تحسين الخدمات للبقاء في المنافسة، وتعديل سياسات الأسعار والعروض لجذب السياح الأكثر قيمة.
على صانعي القرار أن يضعوا في الاعتبار أن استخدام تقنيات التحليل البياني بشكل محكم، كالتركيز على مقارنة الإحصائيات حسب الموسم، والفئات العمرية، وفترات الإقامة لفهم الاتجاهات بشكل أفضل، يمكن أن يقدم رؤى قيّمة لصناع القرار، الذين سيتولون زمام الأمور في قادم السنين خلال فترة لا ندري إن كانت سياحتنا سوف تتمتع بمزايا أفضل في ظل تنافس قوي بين أقطاب القطاع في شمال أفريقيا.