قوة الكلمة المكتوبة تتجلى في تصميم فني عابر للمشاعر

في عالم ينحو أكثر فأكثر إلى الافتراضية والاعتماد على الرسائل الإلكترونية ويتّجه بوضوح صوب تفويض الآلة للقيام بأعمال هي من اختصاص الإنسان، لم يزل للكلمات المكتوبة بخط اليد وزنها الخاص وقدرتها على التعبير ليس فقط عن المضمون، بل أيضا عن شخصية الكاتب ومزاجه من خلال أسلوبه وهيئة خطه. وقد أدركت هذا تماما الأختان تيسّا وتارا الناشطتان اللبنانيتان في مجال التصميم الفني حين إطلاقهما مشروعا فنيا بعنوان “رسائل من بيروت”.
“رسائل من بيروت” هو أكثر من معرض تجهيز فني واسع؛ هو اشتراك مجموعة من أشخاص، معظمهم لا يعرف بعضهم بعضا شخصيا ويعيشون بشكل أساسي في ثلاثة بلدان، وهي لبنان والإمارات وإيطاليا، في تحقيق ما يُمكن اعتباره عملا فنيا/ تجهيزيا/ تركيبيا/ وتفاعليا لأنه يحضّ زائريه على المشاركة والتفاعل مع ما يضمّ من عناصر.
وقد شرحت الشقيقتان المصممتان اللبنانيتان تيسّا وتارا كيف نشأ هذا المشروع الفني المُتشعّب وأهدافه الإنسانية، إذ انطلق في بدايته بجمع ألفَيْ رسالة قصيرة من مواطنين لبنانيين نجوا من انفجار الرابع من أغسطس. تضمنت بعض هذه الرسائل مجموعة من الأسئلة أو الأسئلة المنفردة من قبيل “ماذا لو ولدنا في مكان آخر؟”، في حين جاءت بعض الرسائل الأخرى كسرد قصير عن المعاناة الشخصية.
حقائب عطرة

سؤال "كيف سنعيش معا؟" يُحيل بقوة إلى إحدى لوحات الفنان البلجيكي رونيه ماغريت المُسماة بـ"الذاكرة"
أما “المُغلفات الفنية” لهذه الرسائل التي حرصت الشقيقتان على طباعتها بخطوط كُتّابها الأصليين على أوراق من لبّاد مُعاد تدويرها، فقد كانت هي الأُخرى ناطقة بالتعاضد الإنساني/ الاجتماعي.
واعتبر القيّمون على هذا المشروع أنه يوظّف “عناصر وتقنيات من التراث الحرفي لدولة الإمارات العربية المتحدة قدّمها مجلس إرثي، ويتألّف من ألفي حقيبة معطّرة معروضة على جدار أفقي يبلغ طوله ستة أمتار، حيث قامت سبع وثلاثون حرفية إماراتية من برنامج ‘بدوة’ للتنمية الاجتماعية التابع لمجلس إرثي في الشارقة بصناعة جميع الحقائب يدويا من قماش اللبّاد المعاد تدويره، باستخدام تقنية ‘ساير ياي’ المستوحاة من حرفة السفيفة الإماراتية التي تعتمد على جدل سعف النخيل”.
إضافة إلى متعة النظر واللمس جاءت تلك الحقائب فوّاحة بعطور مصادرها الطبيعية اللبنانية مثل الياسمين والزعتر البري والصنوبر وخشب الأرز، كما احتوت الحقائب -إلى جانب الرسائل التي خطّها ناجون لبنانيون- بذورا ترمز لبداية جديدة ويمكن زراعتها والاستفادة من محصولها، وتنوّعت ما بين بذور الكزبرة والكوسا والفاصولياء وهي جميعها نباتات تستخدم بكثرة في المطبخ اللبناني.
وفي المعرض تمكّن الزوار من أن يختاروا أي حقيبة مُعلقة على الجدار وأن يقرأوا الرسالة الشخصية التي تتضمّنها.
ومنذ تلك اللحظة بدأ المشهد الفني الذي يقدّمه المعرض بالتحوّل؛ فكلما عمد الزائرون إلى إخراج وفتح الرسائل بدأ الجدار بالتفكّك حتى لم يبق منه شيء عند سحب آخر حقيبة.
بعيدا عن أهداف المعرض النبيلة وقدرته على إحداث تقارب يكاد يعبّر عن “وحدة حال” بين عدد كبير من الناس لا تجمعهم إلاّ إنسانيتهم، فإن هيئة العمل الفني بجميع عناصره فيها الكثير من الشاعرية.
فمن ناحية تستمد هذه الشاعرية سحرها من زخم الجهد البشري الذي ساهم في إنشائها، ومن ناحية ثانية تستمده من قدرتها على تحويل نظر المُشاهد من جدار موصد لا رجاء منه إلى إبصار شراع هائل بعيد كل بعد عن الصلابة وعن الركون إلى المأساة.
علاج فني
من ناحية أخرى أشارت الفنانتان تيسّا وتارا إلى أن المشروع الفني بأسره هو أولا دعوة لها أبعاد علاجية تمرّ عبر مشاركة أفكار المتضرّرين ومشاعرهم مع آخرين يعيشون خارج لبنان. وهي أبعاد لا تطال فقط وجدان المتضرّر بشكل مباشر أو غير مباشر إزاء انفجار بيروت، بل أيضا تطال كل من اطلع على رسالة من تلك الرسائل المدقوقة في الحقائب/ المغلفات الصغيرة والتي يجهل المُطلع عليها كاتبها، ولكنه على الرغم من ذلك ما يلبث أن تنعقد معه صلة قربى هي الإنسانية التي تقارب بينهما.
أما الهدف الثاني من المشروع فهو تعزيز السعي لتمكين لبنان من جديد على الساحة العالمية. ولأجل الهدف الثاني تُجمع التبرّعات اللازمة لدعم المنكوبين من انفجار مرفأ بيروت، وذلك من عدة نواح شملت التعليم والاستشفاء وإعادة الإعمار.

مشروع تيسّا وتارا يحمل أبعادا علاجية تمرّ عبر مشاركة أفكار المتضرّرين ومشاعرهم مع آخرين يعيشون خارج لبنان
وفي ظل جوّ عام من غياب الثقة بالقطاع اللبناني الرسمي قدّم المشروع لزُوار المعرض فرصة التبرّع لأربع مبادرات ومؤسسات خيرية موثوقة، وهي: “بانك تو سكول” التابعة لمنظمة “آرك أون سيال” الداعمة لتعليم الأطفال، ومبادرة “تراث بيروت” وهي مبادرة مستقلة تسعى لحماية تراث بيروت المعماري والثقافي، و”باب وشباك” وهي مؤسّسة قامت ولا تزال تقوم بترميم وصناعة أبواب ونوافذ لأكثر من ثمانين ألف منزل متضرّر، وأخيرا حملة “سلام لبيروت” التابعة لمؤسسة القلب الكبير الإنسانية العالمية.
تم عرض هذا العمل الفني المتكامل في الدورة الخامسة من معرض المركز الثقافي الأوروبي الذي فتح أبوابه للزوّار بالتزامن مع فعاليات “بينالي البندقية للعمارة” الذي أقيم هذه السنة تحت عنوان “كيف سنعيش معا؟”، وذلك خلال الفترة الممتدة بين الثاني والعشرين من مايو الماضي حتى الحادي والعشرين من نوفمبر القادم.
وفي حين كان سؤال من قبيل “كيف سنعيش معا؟” دون أدنى شك من الأسئلة غير المطروحة ماضيا، لأن واقع العيش كان أكثر تجانسا وكان الأفراد أكثر تعاطفا مع بعضهم البعض، فإنه اليوم يطرح من ناحية كي يشير إلى الجرح العميق الذي أصاب جبهة الإنسانية. وتحيلنا هذه الفكرة بقوة إلى إحدى لوحات الفنان رونيه ماغريت المُسماة بـ”الذاكرة” ولوحة أخرى له تحمل عنوان “وجه العبقري”.
ومن ناحية أخرى يحضر هذا السؤال ليُحاول تحفيز سائر البشر على ردم تلك الهوّة عبر خاصية التعاطف، وعدم الكيل بمكيالين والإقرار بأن ما يجمعهم مهما اختلفوا هو إنسانيتهم وبأن ما يصيبهم يصيب الآخرين ولا يبقى بعيدا عن شطآن بحارهم.