قتلت جدتي

منذ فتحت عينيّ في هذا الوجود، وأنا أراها في مكانها نفسه، بعينيها المتسلّطتين، وبجلستها في وسط الغرفة تحيط بها لوازمها في نصف دائرة تكاد تمنع عنّا الحركة في الغرفة الصّغيرة: إبريق مائها وحذاؤها وشالها الذي تلفّ به رأسها من البرد أيام الشّتاء في كلّ مرّة اِحتاجت إلى الخروج. لكثرة ما أحسستها تملك كلّ شيء، كنت أسمع صوتها يخرج من أواني البيت، وجدرانه وأرضيته وهي تعلّق على غسيل، وطعام، ولباس وكلام أمي. لا يعجبها أحد، نسيت تفصيلا آخر مهم، أيضا، لم أر يوما اِبتسامتها!
لم تبهجها إلاّ عودة أبي مساء عندما يقبّلها قبل أن يذهب إلى المطبخ ليرى أمي. لا يمكن أن أنسى نظرة الاِنتشاء تلك، أبدا تنصبها ملكة بلا إكليل أو تاج.
تدخّلت حتى في شكل الكراريس التي نشتريها، وفي الأصدقاء الذين يأتون إلينا وكم من مرّة ألّبت أبي على صديقاتي أنهّن يفسدنني!
وأمي لا تعيرها اِهتماما كانت تحوّل تدخلها حيّة تقتطع كلّ يوم مزيدا من المساحات لسلطتها لتبسطها مفهوما ظلّ مضبّبا بذاكرتي عن التّوازن الأسريّ بأسئلة كانوا يستغربونها منّي عن وجودها معنا؟.. وعمّن يتصرّف في البيت؟. فلم تغفر لي أبدا يوم أن سألت أبي: لماذا يبقيها معنا ولا يأخذها إلى دار عمي؟
أقامت الدنيا وأقعدتها، واِتّهمت أمي علانيةً: كْلام كْبارنا عند صْغارنا.
والحقّ لم يكن لأمي مكان تجتمع فيه بنا منفردة، فكلّ البيت كان مطبخا يستحيل ليلا غرفة ننام فيها نحن الخمسة معها، وغرفة يتقاسمها أبي وأمي مع أختي وأخي الصغيرين. وعندما يئست من أن تسمع إجابة شافية قالت: إنّهم أخوالي! لم تكن هذه الواقعة إلاّ بداية صراع مرير لي معها بحكم أنّي أكبر إخوتي وأوّلهم إدراكا بالأمور، وبحكم ما كنت أتعلّمه في المدرسة التي أزعجها خروجي إليها يوميا.
أدركتُ ذلك باكرا ممّا بذلت من جهودٍ لإبقائي في البيت حتى أنّها ذات سنة تمارضت، وهي متأكّدة أنّ أمي ستستبقني في البيت لمساعدتها! فإذا اِجتزت شهادة التّعليم الاِبتدائيّ أعلنتها صراحة – إنّ ساقيها صارتا أطول من ساقي أمها فأيّ عار يلحق بنا أن تخرج اِمرأة في طولها للشّارع كل يوم، أن تقرأ “البراوات “، فهذا ما لم تلحق إليه فتاة في العائلة قبلها.
وقتها رمت أمي بصبرها، وطول بالها في حفرة لا بدّ أنّها كانت تنثل ترابها كلّ هذه السّنين وقالت: ما زلت شابة، وقادرة على بيتي وأولادي!
أمّا أبي فكما تعوّد قبّل رأسها، وبهدوئه أكّد أنّني ممتازة ولن يغفر له الله لو حرمني من العلم لتسكت عن الكلام وقتها، وتبدأ سلاحا جديدا لم أكن أحسب أنّها تقصده. فهي في ظنّي من السّذاجة التي لا يمكن أن توصلها إلى ربط كلّ ما فعلت بالماضي، لكنّي فهمت أنّ الحياة الإنسانيّة تعلّمنا الكثير عن علاقات القوّة والتّسلّط بين البشر، وأنّ كلّ ما نقرأه من تحليلات علم النّفس، في الحقيقة، لا يفعل سوى يحلّل أسباب الصراع، ويطلق مسميّات
لمراحله ويقترح بعض الحلول لتجنّبه: ففي أيام لم أجد بعض كراريسي، واِضطّررت أكثر من مرّة لإعادة تدوين دروسي، وفي أيام أخرى كانت تمزّق صفحات من كتبي ترمي فيها أظافرها؛ لأنّه لا يجوز أن تبقى الأظافر دون دفن، بكلّ برود أجابتني لمّا قلت يا جدة هذا كتاب!
حين يئست من أن يوصلها هذا إلى هدفها، صارت لا تفوّت مدح كسرة اِبنة عمتي والعشاء الذي جهّزته اِبنة عمي حين أنجبت طفلا ذكرا، واِشترى لها زوجها محزمة، مرصوصة حبّاتها الثلاثون واحدة بجانب الأخرى، لاعنة هذه الكتب التي لا تلقى أين تضع أقدامها منها، كانت تقصد بما لا يحتمل الشّك ضربي في عمق أنوثتي.
لتظهر كلّ نقمتها بكلّ فتنتها، ودون ستر، حين حزت على البكالوريا، في هجر البيت. لم تقصد البيت الصيف كله، قسّمت أيامها بين بيت عمي وعمتي بحجة أنّها لا تطيق سكنى العمارات الحارة صيفا، مع أنّ عمي وعمتي سكنا سنوات من قبلنا في عمارات.
لم ألمها، ولم أطلب منها ما لم تعطنه يوما، فهي مرجعيّة الحقد في خارطة ذاكرتي:
لم أسمع منها إلاّ حكايات تسخط فيها على كلّ سلفاتها، وكلّ عائلة زوجها، وبسبب حكاياتها التي رسمت النّاس غيلان يأكلون الوحيدين والنساء، كرهت كلّ أقاربي.
لم تتزوّج بعد جدي لأنّها رفضت أن يشمتوا بها، وأن يرسموا لها صورة اِمرأة أضعف من أن تربي أطفالها، فرفضت مساعدتهم، وعلّمت أطفالها، أنّ أعمامهم يكرهونهم لتحكم تطويقها لهم، وبسبب سلبياتها عطّلت رحيل أبي إلى المدينة ليزاول دراسته.
إنّ حفظ القرآن الكريم كاف، وهو بركة ستقويه على حماية الأرض ومظاهرة عمه بقطعان الغنم والبقر.
الحمد لله أنّ الحلم كان يسرقه في غفلة منها، فأصرّ على إدخالي إلى المدرسة.
وهكذا اِنتقل أبي إلى المدينة حيث تزوّج أمي التي سمحت لها بهدوئها أن تتدخل في كلّ شيء بما في ذلك الهدايا التي كان يحابي بها الأهل في الأعراس. وإن أظهر اِنزعاجا لم تمل من إعادة قصة ترملها، وتضحيتها من أجلهم (أولادها) فأولى بها لو تركتهم خدما عند زوجة عمهم.
هدوء أمي نفسه ما هيّأ لها أنّها يمكن أن تسيّرني في الاِتجاه الذي تريد. فقد أعمتها سيطرتها أن تدرك أنّها لم تكن إلاّ تمنحها فضاء تتفادى الدخول معها في صراع لم أسع بيفاعة اِندفاعي لاِجتنابه. لم تغفر لي أبدا أن أفلتّ من قبضة سيطرتها فوصفتني بسبب أو دونه مع أيّ قريب يزورنا: أنّي كالبركة المكدرة لا تصفو أبدا، نصف “فولة” من أخوالها: لا يعطونك حقّا ولا باطلا. حتى لا تسمي أمي، هكذا فسّرت جدتي صمتي وصلابة شخصيّتي.
كان صراعا خفيّا علّقته على حبال جهلها واِحتباس قدرتها عن فهم كلّ ما يحدث جديدا، فلا يمكن لها بكلّ حال من الأحوال أن تلمّ به. وجففته مرّات على حبل الخوف من الله حينا ثانيا كما قالت أمي لأتجنّب “دعاوي شرّها”.
إنّما ما رددت به لاحقا على ما فعلت من محاولة إبعادي عن مجال سيطرتها بتزويجي، أكّد أنّ ردّات فعلي الطفوليّة، كانت تشكّلني في صمت على هيئة فاجأتني أنا الأولى، لذلك لم أسأل من أين لي بتلك القسوة التي ظهرت كاملة عندما جاء حفيدها من اِبنتها لخطبتي، وكأنّه يرحمني من العنوسة، ولم أتجاوز الرابعة والعشرين، متنازلا أن قبل بي!
فأعلنت دون مواربة: إنّ هذا الجاهل، لا يناسبني.
شدّت سوالفها، ورفعت صوتها بالدعاء عليّ بأنّي لن أرى خيرا في حياتي وحق شيبتها وبركاتها.
كانت أوّل مواجهة حقيقيّة بيننا. أبكيتها، أو تباكت عندما قلت: كان الأولى بك أن تهتمي بصلاتك عوض أن تشعلي نارا ستحرقك.
أبلغت أبي بما حدث فثار وقرّعني، بل همّ إلى ضربي. كان يعرف كيف يسكت غضبها بذاك الحبل السّريّ من الخضوع لها يعرف متى يستعمله: حبل لا ينقطع بينهما رغم ما حدث من تغيّرات يعرف، عن طريقه كيف يزرعها أمانا: أن لا أحد يملأ مكانها في قلبه وحياته، ويسعدها ذلك، في أيّ صورة كان يسعدها.
لم يؤلمني ما فعل أبي معي فقد قوّتني هذه المواجهة، إذا ضربت فيها سيطرتها ضربة زلزلت ما كانت تفرضه من اِحترام يلجم الآخرين بعدم التّعقيب على ما تقول، موحية أنّ سنّها بركة أنعم الله بها على الجميع!
فمن قال إنّ الصالحين اِبتزوا النّاس، ولعبوا بعواطفهم ليحقّقوا ما يشاءون؟
على مرّ الزمن اِعتزل الصالحون النّاس وفتنهم، وهربوا بصفائهم إلى الله قانتين، لا يتدخلون في تسيير حياتهم التي لم تعد تعنيهم.
وقتها عارضني الجميع مرتكزين على أنّها كبيرة، وبركة العائلة! ولم أكن ضدّ هذا كلّه. فقط أرفض أن تريني الحياة بعينيها الصّغيرتين، واللّتان صارت تضع عليهما نظارة.
مع ذلك اِستطاعوا أن يحرّكوا مؤشر التّأنيب داخلي، لكنّ شعوري الخفيّ بالتأنيب لم يوقف الحرب بيننا، وهي لا تخلد إلى الاِستسلام من بعد أن جاوزت الثمانين وصارت لا تقدر أن تصلي واقفة، ولا تقوى على تحمّل ماء الوضوء. فقط حافظت على نقودها فلم يعدّها أحد غيرها، ولم تنس يوما أين وضعتها مع أنّها كانت تنسى أسماءنا وتخلطها. واِجتازت نوبات المرض بكلّ قوّة، قوّة لمستُ حديد ركائزها يوم تصدّت لتلك الحمى التي كانت تهزّها من تحت تلّ الأغطية الموضوعة فوقها، وجميع أبنائها وأحفادها ينتظرون أن تلفظها الحياة.
لقد لمست وقتها أكتاف سرّ تلك الرغبة في السّيطرة والاِستمرار، إنّها الرّغبة نفسها التي أشعلت داخلها جذوة حب الحياة والتّمسك بها بشكل ملفت للاِنتباه.
وهي نفسها ما يجعلها ترفض الخضوع كما يظهر في كلامها، وقرارتها بشأن بعض الأقارب، حتى بناتها، مصرّة على التّمسك برأيها، فيسري كرأيٍ قاله أحدهم واِختطفه الموت، فلا يمكن لأحد بعده أن يجري عليه أيّ تعديل.
هل كنت معجبة بها؟
لم أسأل عن ذلك يوما فقد شغلتني مقاومتها العلنيّة أحيانا، والخفيّة أحيانا أخرى عن الاِهتمام برأيها فيّ، أو ربّما لأنّه أوضح من أن تشغلني الإجابة عنه.
فقد رفضت أن أفحصها، وأن تشرب دواء أكتبه في لحظات ألمها الصّعبة، لم تتنازل ولم تشف من كبريائها المريض. كان موقفها ذاك آخر نقطة وضعتها داخلي لأنهي وجودها في تلا فيف دماغي.
لم تكن علاقتنا علاقة حفيدة بجدة يمكن أن تختلفا لشيء أو لآخر، وتتصالحان فتصلّبها أعاقني بقيود صمتها وتحجّرها، منذ صغري أن أقبّلها مستسمحة إيّاها كما رأيت أبي، وكما يفعل كلّ أحفادها، بل هي صراع وجودين وحياتين لم تقدر إحداهما على التأقلم مع الأخرى.
هل أنا صورتها التي رفضتها، فلم أفهم يوما كيف تقبع أمامي صامدة وتريدني أن أذعن لها؟
الحق فهمت مبكرا أنّ ما يزعجها بعمق أنّي لست اِستمرارا لها، فكم أدارت وجهها وأنا أضع مكياجي أو أشاهد فلمًا: فحين لا تفهم لغته أو تفاجئها قبلة في إحدى لقطاته، تتمتم مستغفرة: كيف لا يؤدبني أبي أو أخي؟
لمّا وصلنا هذه المرحلة لم أعد أسمعها ولا أراها وكأنّ غرفتها لم تعد موجودة في البيت! حتى أيقظني أبي ليلة يرجوني أن أفحصها.
حبّا فيه أخذت لوازمي ودخلت، لكنّها أشاحت بوجهها عنّي. ولم أمرّضها، ولم أفحصها بكلّ التّحدي الذي يسكنني غذّته طوال حياتها.
الغريب أنّهم عندما أعلنوا وفاتها، بكيت بكاء مرّا!