في ضرورات ضبط المناولة والروايات المضادة

تعديلات قانون العمل التي أقرتها تونس لم تأت من فراغ بل تهدف إلى تنظيم المرونة وفق قواعد تحمي الطرف الأضعف وذلك عبر تحديد مدة العقود وضبط الأجور وضمان التغطية الاجتماعية.
السبت 2025/05/24
من يضمن حقوق هؤلاء؟

في زمن تعقّد فيه سوق العمل وتشابكت فيه حاجيات الشركات مع حقوق العمال نتيجة لعوامل متداخلة، تقف تونس والجزائر اليوم، وسط روايات متضاربة، على عتبة إصلاح جوهري يتمثل في تنظيم نشاط المناولة (نظام العمل عبر شركات وسيطة). هذا الإصلاح يبدو في ظاهره مجرد إجراء قانوني، لكنه في جوهره رهان سيادي لتنظيم سوق العمل.

هل من قبيل الصدفة أن تُشن حملات انتقاد لهذا المسار في الوقت الذي بدأت فيه الحكومتان خطوات فعلية لتنظيم القطاع وتنظيف السوق من الشركات الوهمية والمشغلين غير الملتزمين؟ الهدف هو تحقيق معادلة صعبة تتمثل في حماية حقوق العمال دون خنق الاستثمار، وضمان العدالة دون التضحية بالمرونة.

مع كل خطوة لتنظيم أي قطاع، تتعالى أصوات الانتقاد من منظمات وخبراء ومعارضين للسياسات المتبعة، وتُشن حملات ممنهجة تختزل القضية في شعارات سطحية، متجاهلة عمق التحديات وتعقيد الواقع. الحقيقة التي يحاول البعض تغييبها أو تشتيت الانتباه عنها هي أن تقنين المناولة ليس خيانة لحقوق العمال أو المقاولين من الباطن، فهي ليست بدعة جديدة، بل أداة تشغيلية معمول بها عالميا.

غياب التأطير جعل من قضية المناولة في الكثير من الأحيان بوابة للاستغلال وأداة لخرق قوانين العمل، ما أكسبها سمعة سلبية. بدل الإبقاء على هذا القطاع في الظل يغذي التشغيل الهش، اختارت تونس المضي في تنظيمه، في خطوة جريئة قد تكون من المبادرات النادرة في المنطقة العربية بهدف حماية العمال أولا. بالمثل، تعمل الجزائر على إصلاح القطاع لخدمة اقتصادها.

اللافت للانتباه أن الانتقادات لهذا التوجه تتزامن مع حملات إعلامية ومواقف مشبوهة صادرة عن منظمات ترتبط بأجندات خارجية أو تستفيد من بقاء السوق في حالة غير منظمة

التقنين لا يعني شرعنة الاستغلال، بل على العكس تماما، هو وسيلة لوقف الفوضى، ولإخضاع الشركات للمراقبة والمحاسبة. سوق العمل يحتاج إلى توازن بين المرونة الضرورية والحماية الواجبة، خصوصا في ظل التغيرات الاقتصادية التي تتطلب هوامش معينة من المرونة.

هنا تلعب شركات المناولة دورا وظيفيا، يسمح بتوفير فرص عمل مؤقتة أو موسمية والاستجابة السريعة للمتطلبات المتغيرة للسوق. لكن هذه المرونة، إن تُركت دون ضوابط، تتحول إلى هشاشة دائمة للعمال.

في تونس، تعمل قرابة 300 شركة مناولة مسجلة، بينما هناك عدد غير معلوم يعمل بطرق غير قانونية. القطاع يستوعب، وفق التقديرات، 230 ألف عامل، منهم 167 ألفا في خدمات الحراسة والتنظيف. أغلب هؤلاء يتقاضون أجورا زهيدة لا تتجاوز 700 دينار تونسي (230 دولارا)، دون إخضاعها للضرائب، ومع غياب التغطية الاجتماعية. كيف يمكن لعامل بهذه الظروف أن يواجه التحديات المعيشية الضاغطة؟

أما الجزائر، ورغم بطء مسارها مقارنة بتونس نظرا لتعقيدات القطاع، فإنها تضم أكثر من 1400 شركة مناولة مسجلة، وربما هناك ضعف هذا العدد يعمل دون رقابة. مقارنة بحجم السوقين، يفترض أن عدد العمال في الجزائر يفوق أربعة أضعاف نظيره في تونس، دون احتساب من يعملون في السوق غير الرسمي، وقد تكون الرواتب أقل أيضا.

تعديلات قانون العمل التي أقرتها تونس لم تأتِ من فراغ، بل تهدف إلى تنظيم المرونة وفق قواعد تحمي الطرف الأضعف: العامل، وذلك عبر تحديد مدة العقود، وضبط الأجور، وضمان التغطية الاجتماعية، وخلق آليات للإدماج التدريجي في سوق العمل الرسمي، ما يقطع الطريق أمام المتلاعبين بقوت الناس.

التاريخ لا يرحم من يُضيّع الفرص الإصلاحية باسم الشعب، بينما يخدم في الخفاء مصالح من يستغل الشعب. لا داعي للتسرع في الحكم، ولنترك التقييم حتى تنضج الخطوة

لا يعني ذلك منع الشركات من تقديم خدماتها وتحقيق الأرباح، بل يلزمها باحترام قواعد الانضباط.

الحملة الممنهجة ضد هذا التوجه تقع بين المصالح والاصطفافات السياسية. اللافت للانتباه أن الانتقادات لهذا التوجه تتزامن مع حملات إعلامية ومواقف مشبوهة صادرة عن منظمات ترتبط بأجندات خارجية أو تستفيد من بقاء السوق في حالة غير منظمة.

بعض هذه الحملات لا تهدف إلى حماية العمال، بل تدافع عن نمط تشغيل فوضوي يخدم مصالح فئات معينة. كما أن بعض القوى السياسية والاجتماعية تستغل الملف لإضعاف الإصلاحات بدل تحسينها. لكن الكلمة الفصل تبقى لمن يديرون الدولة بقوة القانون، ومع إرادة قاطعة للقطع مع النماذج القديمة، يمكن اختراق جدار أي أزمة.

في الواقع، هذه فرصة تاريخية، فبدل رفض المناولة من حيث المبدأ، ينبغي تحويلها إلى أداة إدماج اجتماعي للشباب في سوق العمل، خاصة في القطاعات التي تعاني نقصا في اليد العاملة أو تحتاج إلى مرونة مؤقتة. كما يمكن للقانون أن يشترط التدريب المسبق، ويربط تجديد العقود بمستوى التزام الشركات بحقوق العمال.

تقنين القطاع يسمح بتوسيع قاعدة دافعي الضرائب، وتخفيف الضغط عن الوظيفة العمومية، وتحفيز ديناميكية تشغيلية جديدة تستجيب للتحديات الاقتصادية دون المساس بالمكاسب الاجتماعية. تنظيم المناولة قد يغري الشركات التي تحترم القوانين، بما فيها الأجنبية، خاصة في مجال الخدمات، بإعادة ترتيب أوضاعها لتحقيق منفعة متبادلة للدولة وصاحب الشركة والعامل.

شركات المناولة ليست عدوة العمال، والعامل ليس خصما لها، بل الفوضى هي العدو الحقيقي لهذا القطاع. صحيح أن بعض التجارب السابقة أعطت انطباعا سلبيا، لكن الحل لا يكمن في المنع، بل في التنظيم المسؤول، ولا يكون بالرجوع إلى الخلف، بل بالتقدم بشجاعة نحو إصلاح السوق، مهما كانت التحديات ومحاولات تثبيط العزائم.

التاريخ لا يرحم من يُضيّع الفرص الإصلاحية باسم الشعب، بينما يخدم في الخفاء مصالح من يستغل الشعب. لا داعي للتسرع في الحكم، ولنترك التقييم حتى تنضج الخطوة، لنتمكن من قياس إيجابياتها وسلبياتها. وهذا هو الأهم.

9