في تحطيم الحاجز النفسي التونسي للتدريب المهني

تعاني تونس من مشكلة بطالة أصحاب الشهادات العليا منذ عقود. ويبدو الرهان على التدريب المهني الذي تتجاوز نسبة إلحاق خريجيه 70 في المئة في سوق العمل منطقيا في تقليص الأزمة. لكن الدولة تحتاج إلى حملة ترويج قوية تكسر الاعتقاد السائد بأن خريجي هذا المجال أقل أهمية من أصحاب الشهادات العليا، والذين وصلت نسبة العاطلين بينهم 25 في المئة بين تموز – يوليو وأيلول – سبتمبر الماضيين.
لا اختلاف على أن معركة أصحاب المهارات صارت محددا في كيفية فهمنا لبناء لبنات أيّ اقتصاد، وخاصة في منطقتنا العربية، في الوقت الحاضر، فهذه الفئة، لديها الإمكانيات أحيانا أفضل من خريجي الجامعات، بالنظر إلى قدرتها على جمع محددات مهمة، تتمثل في التعلم والتجربة والتطبيق والاندماج بسرعة أكبر.
الإدماج المهني للخريجين والعمال يعتبر بلا شك أحد الأولويات الملحة للنهوض باقتصاد متعطش للنمو. لذا فالحرص أكثر على اتخاذ تدابير الدعم المناسبة لتسهيل انتقال الخريجين الشباب إلى عالم العمل، مثل برامج التدريب وعروض العمل المخصصة لهم وللشركات التي تقوم بتوظيفهم سيكون بنفس أهمية الاهتمام بخريجي الجامعات على الرغم من صعوبة استيعابهم.
◄ تنويع تقديم الحوافز المالية أو الدعم للطلاب، الذين يختارون التدريب المهني، سيسهل عليهم اتخاذ قراراتهم، وسيساعد في محو الفوارق مع خريجي الجامعات
صناع القرار السياسي يدركون ذلك جيدا، ولديهم اقتناع بأن تعزيز التدريب المهني وتغيير الصور النمطية المرتبطة به، بموازاة التعليم الجامعي، يمكن أن يساهم بشكل كبير في تقليص نسبة العاطلين الشباب ويوفر فرص عمل تتناسب مع المهارات الموجودة. هذا أحد المحددات الأبرز حتى نرى مؤشر البطالة، الذي ظل يتأرجح لسنوات بين 15 و16 في المئة، ينزل تحت مستوياته المزعجة لأنها تعكس دوما عللا وجبت معالجاتها في نموذج التنمية.
السياسات الحكومية إن لم تترجم لتنعكس على أرقام التوظيف، التي يجمعها معهد الإحصاء لتكون مقياسا للتحليل سواء للساسة أو الخبراء أو حتى نحن معشر الإعلاميين، سيكون مصير الخريجين الجدد غامضا، وربما يتسرب جزء منهم كالعادة إلى الخارج بالنظر إلى كثرة الإغراءات. وفي ظل حاجة الاقتصاد الملحة إلى التجديد، فإن مواجهة التوجهات الثقافية والاجتماعية، التي تضع خريجي التعليم العالي في مرتبة أعلى من خريجي التدريب المهني، هو الجدار النفسي الأول الذي يجب أن تتخطاه الدولة اليوم.
إن التدريب والتكامل المهني يلعب دورا أساسيا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأي بلد. وفي تونس، تحظى هذه الجوانب بأهمية خاصة منذ سنوات طويلة. وهناك دلائل على أنها كانت سباقة في هذا المجال قبل دول كثيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. الآن تطمح البلاد إلى تعزيز مهاراتها وتحفيز سوق العمل وهو ما يسوّق له المسؤولون. وبما أن إدماج هذا الأمر في سياسات الدولة منذ استقلالها، بدا مهما من الناحية الإستراتيجية، لكنه يسلط الضوء على أهمية مضاعفة الجهود لتحسين مهارات العمال وتسهيل انتقالهم إلى عالم العمل.
◄ لا اختلاف على أن معركة أصحاب المهارات صارت محددا في كيفية فهمنا لبناء لبنات أيّ اقتصاد، وخاصة في منطقتنا العربية
تونس باعتبارها دولة ضعيفة اقتصاديا نتيجة مخلفات فوضى 2011، تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية مستمرة، أولها تفشي البطالة بين الشباب الذين اختار بعضهم ركوب البحر لبلوغ الضفة الشمالية من المتوسط، في ظل الحاجة إلى تنويع القطاعات الإنتاجية. ولمواجهة هذه الصعوبات، دأبت الحكومات منذ أكثر من عقدين باعتماد برامج تعزز التدريب والإدماج المهني للأفراد لأنها متيقنة أن المكاسب ستكون مزدوجة، بالنسبة إليها بالتفاخر بما تحقق أثناء إدارتها، وبالنسبة إلى المتدربين بأنهم انضموا إلى جحافل العمال.
إحدى المبادرات الرئيسية تتمثل في تطوير نظام تعليمي يركز على اكتساب المهارات ذات الصلة بسوق العمل. وقد عززت مؤسسات التعليم العالي برامج التدريب المهني، مع التركيز على مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والهندسة والسياحة والزراعة. وهذا سمح للخريجين باكتساب المهارات والمعرفة اللازمة لتلبية احتياجات سوق العمل التونسي والدولي.
في الوقت نفسه، تم اتخاذ تدابير لتشجيع ريادة الأعمال ودعم تعزيز فرص العمل. وقد أنشأت حاضنات للأعمال ومساحات العمل المشتركة لدعم رواد الأعمال الشباب ومساعدتهم على تحويل أفكارهم إلى واقع. كما يتم بالتزامن مع ذلك، تقديم برامج التدريب والتوجيه لتعزيز مهارات ريادة الأعمال وتعزيز نجاح الشركات الجديدة.
الأمر الآخر يتعلق بتحديث مجال التدريب المهني. يعتمد ذلك على سلسلة من الآليات والعمليات الرامية إلى تكييف البرامج وأساليب التعلم مع الاحتياجات المتغيرة لسوق العمل، وبالتالي فإن نشر هذه الجهود لتعزيز مهارات الأفراد وتحسين قابليتهم للتوظيف بما يحفز التنمية.
◄ صناع القرار السياسي لديهم اقتناع بأن تعزيز التدريب المهني وتغيير الصور النمطية المرتبطة به، بموازاة التعليم الجامعي، يمكن أن يساهم بشكل كبير في تقليص نسبة العاطلين الشباب
الآليات الأساسية للتحديث تتمحور حول مراجعة برامج الدراسة. ومع أن السلطات ممثلة في وزارة التشغيل والتدريب المهني تعمل بشكل وثيق مع أصحاب المصلحة في مجال التعليم، والشركات في القطاع الخاص، لتحديد المهارات المطلوبة في مختلف المجالات، فإن إمكانية تطوير برامج التدريب، بما يتماشى مع التقدم التكنولوجي ومتطلبات السوق الجديدة سيكون منعطفا مهما لزيادة التنافسية.
عمليا، سيعتمد أيّ تحديث للتدريب المهني على نهج شمولي يجمع بين مراجعة البرامج واعتماد أساليب التدريس المبتكرة والتعاون مع الجهات الفاعلة في سوق العمل وإصدار الشهادات للمهارات. هذه الآليات سيكون هدفها إنشاء نظام تدريب مهني رشيق، يتكيف مع احتياجات سوق العمل، وقادر في الوقت ذاته، على توفير المواهب المؤهلة لدعم تنمية الاقتصاد التونسي.
على الحكومة ومنذ هذه اللحظة توضيح أهمية التدريب المهني كحل لتلبية احتياجات السوق المحلية بالتركيز على الحاجة إلى مهارات محددة من خلال الترويج للقطاعات التي تعاني من نقص في المهارات، في مقابل ذلك، فإن تنويع تقديم الحوافز المالية أو الدعم للطلاب، الذين يختارون التدريب المهني، سيسهل عليهم اتخاذ قراراتهم، وسيساعد في محو الفوارق مع خريجي الجامعات.
علينا الانتظار ونرى ماذا ستقدم لنا حكومة كمال المدوري خلال المرحلة المقبلة لمعالجة مشكلة البطالة المزمنة، وكلنا على قناعة بأن التحديات أكبر بكثير من الطموحات في خضم معركة اقتصادية لا أحد بإمكانه التخمين بدقة متى تضع أوزارها.