في أثر المجلات الثقافية

المجلات كانت تشكل المعبرَ الأساس لانبثاق الأجيال الأدبية والثقافية، خصوصا في الوقت الذي كان فيه مشهد النشر منكفئا.
السبت 2019/06/15
جرجي زيدان كان أول من أدخل تجربة المجلة الثقافية في العالم العربي

في اللحظة التي لم تكن الدول العربية، باستثناء لبنان، على علم بتكنولوجيا الطباعة مكتفية بعملية نسخ المخطوطات، استطاع الغرب أن يطلق مجلاته الأولى بشكل مبكر، وبالضبط ابتداء من بداية القرن السابع عشر. وهي الفترة التي شهدت إطلاق مجلة “أخبار أونفيرس” بمدينة ستراسبورغ.

وكان مذهلا أن تستطيع المجلة أن تحتفظ بصدورها الأسبوعي وأن تمتلك شبكة مراسلين، في اللحظة التي كان وصول رسالة ما بين مدينتين أوروبيتين، كما تشير إلى ذلك الأدبيات التاريخية، يتطلب أكثر من شهر. لن تتوقف المغامرة هنا، إذ سيستمر صدور المجلات، وخصوصا الثقافية منها، بشكل متسارع، حيث سيعرف نفس القرن، بشكل خاص، إطلاق مجلتين أساسيتين.

الأولى هي المجلة الأدبية “عطارد فرنسا”، والتي تعتبر المجلة الأولى التي تصدر بفرنسا. وقد استطاعت المجلة، كما يشير إلى ذلك الباحث الفرنسي ميشيل مورات، في دراسته “عطارد فرنسا: أربعون سنة من مواضيع المشرق”، المنشورة في الكتاب الجماعي “مشرق المجلات”، اكتسابَ قراء وكتاب جدد ينتمون إلى المشرق، ابتداء من عشرينات القرن الماضي، بحكم اهتمام المجلة بالآداب الوطنية وبأسئلة الإسلام. ومن علامات ذلك تخصيص المجلة لركن “المغرب العربي”، الذي كانت دوله خاضعة حينها للاستعمار الفرنسي. وذلك بالإضافة إلى نشرها بشكل منتظم لركن “يوميات مصر”، والذي تم الاحتفاء من خلاله بالتجارب الإبداعية لأحمد شوقي وطه حسين، ونشرها لمقال لوصيف بطرس غالي، وكان حينها عضوا بحزب الوفد المصري، حول “الإسلام والأتراك”.

المجلات كانت تشكل المعبرَ الأساس لانبثاق الأجيال الأدبية والثقافية، خصوصا في الوقت الذي يكون فيه مشهد النشر منكفئا على نفسه وغير قادر على مسايرة إيقاع إنتاج الأفكار وتداولها الواسع

ولعل اهتمام هذه المجلة الرصين بالمشرق، خلال مرحلة مبكرة، هو ما جعل شكيب أرسلان يخصها بإشارة في كتابه الشهير “الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية”، في سياق نقاشه مع كاتب فرنسي، هو فرانسوا دو هوركو، حول أصول البشكنش. بينما يعود استمرار المجلة إلى ستينات القرن الماضي إلى إطلاق دار نشر تحمل الاسم نفسه. وهي الدار التي ستنشر أعمال أهم الشعراء الرمزيين، ومن بينهم إميل فيرهارين وفرانسيس جامس وألبير سامين، بالإضافة إلى أعمال نيتشه، وأندري جيد وبول كلوديل.

أما المجلة الثانية فهي “جريدة العلماء” الفرنسية، والتي تم تكريسها لتقديم قراءات نقدية للكتب وللتعريف بالجديد على مستوى الثقافة والإبداع الفني والعلوم. أما المجلة فسيكتب لها الاستمرار إلى اليوم، بعد حوالي أربعة قرون، في صيغة إلكترونية محكمة، تصدرها أكاديمية النقوش والآداب الجميلة الفرنسية. بينما تولى موقع غاليكا، الذي كانت قد أطلقته المكتبة الوطنية الفرنسية، رقمنة مجمل أعداد المجلة وإتاحتها لعموم القراء.

ولعل ذلك هو جزء من صورة أعم تعكس الاهتمام المبكر للغرب، بوسيط جديد، يضمن تداولا أوسع وأسرع للأفكار والمعلومات الثقافية، مكملا بذلك، من جهة مهمة الكِتاب الذي يحتفظ بإيقاعه البطيء الذي تحتاجه ولادة الأفكار الكبرى، ومن جهة أخرى وظيفة الصحيفة التي تسابق إصدارها اليومي. ولذلك كان عاديا أن تعرف فرنسا وحدها إصدار ما يناهز العشرة آلاف عنوان ما بين الفترة الممتدة من بداية القرن العشرين إلى نهايته، حسب التقرير الذي أنجزته لصالح المركز الوطني للكتاب الفرنسي الباحثة صوفي بالوي، سنة قبل رحيلها.

بعد مرور ما يقارب الثلاثة قرون على ظهور أول مجلة أوروبية، سيدخل العالم العربي تجربة إطلاق المجلات الثقافية، وبالضبط مع ظهور مجلة “الهلال”، سنة 1892ـ والتي أطلقها جرجي زيدان بالقاهرة. واستطاعت المجلة، التي تُعتبر الوحيدة من نوعها التي حافظت على صدورها بصفة منتظمة منذ أكثر من قرن، أن تطور نفسها، حيث صدرت عنها مجموعة من المطبوعات الأخرى، من بينها سلسلة كتاب “الهلال”، و”روايات الهلال”، ومجلة “المصور”. وذلك في الوقت الذي ستتوقف مجلة “الأستاذ”، التي أصدرها عبدالله النديم قبيل إطلاق “الهلال”، ولعل ذلك يعود إلى رهانها على المواد الخفيفة، وعدم توفرها على تصور محكم لتبويب موادها.

في مقابل ذلك، سيعرف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين توالي صدور عدد من المجلات الثقافية، سواء بمصر أو بلبنان، وكان ذلك أحد المداخل لتأسيس ثقافة حديثة تقوم على توسيع مجال التداول الثقافي. ومن ذلك على سبيل المثال مجلة “المقتطف”، التي أطلقها يعقوب صروف وفارس نمر، ومجلة “البيان” المصرية، وهي مجلة اختير لها أن تكون “مجلة أدبية وطبية وصناعية”، وقد أسهها بشارة زلزلة وإبراهيم اليازجي، الذي ظل حريصا على كتابة أغلب مواد المجلة. بل إن كثيرا من أعداد المجلة تكتفي بتوقيعه الوحيد فقط. ولعل ذلك سبب كاف لموت أي مجلة. وهو ما كان مآل مجلة “البيان” التي ستتوقف سنة واحدة بعد إصدارها.

المجلات الثقافية ظلت منذ لحظات التأسيس وإلى الآن، تحتفظ بخصوصياتها
المجلات الثقافية ظلت منذ لحظات التأسيس وإلى الآن، تحتفظ بخصوصياتها

وخلال الفترة نفسها، اختار الأب لويس شيخو اليسوعيّ إصدار مجلته “المشرق” بلبنان، مكرسا إياها لقضايا الدِّين وما يتّصلُ بالشؤون الثقافيّة. أما المجلة فستسمر في الصدور عن دار نشر المشرق، التي يعود إطلاقها إلى نهاية القرن التاسع عشر.

وسيعمل الكاتب الكويتي محمد الشارخ على رقمنة جانب هام من المجلات الثقافية العربية، حيث يضم أرشيفه الإلكتروني أكثر من مليون ونصف المليون صفحة مرقمنة. وهو ما قد يتجاوز ما تمت رقمنته من طرف العديد من مكتباتنا الوطنية التي يفترض أن تتولى هذه المهمة، بحكم وصايتها على التراث الوطني بمختلف وسائطه.

وبذلك، ظلت المجلات الثقافية، منذ لحظات التأسيس وإلى الآن، تحتفظ بخصوصياتها التي تكمن أساسا في ما تمنحه من إمكانيات النقاش والتداول الثقافي والإبداعي والفني، واضعة مسافتها الخاصة التي تميزها عن الكِتاب وعن الصحيفة، رغم الانتماء المشترك إلى نفس الوسيط الورقي.

بل إن المجلات كانت، فوق ذلك، تشكل المعبرَ الأساس لانبثاق الأجيال الأدبية والثقافية، خصوصا في الوقت الذي يكون فيه مشهد النشر منكفئا على نفسه وغير قادر على مسايرة إيقاع إنتاج الأفكار وتداولها الواسع. ولذلك، كان عاديا أن تمثل المجلات الموئلَ الأفضل الذي تتحلق حوله الجماعات الأدبية والثقافية. تبدو المجلات بذلك، وبخلاف عدد من الوسائط، ومنها الكِتاب، تماما ككائنات حية. تولد وتكبر وتغير أسماءها وتموت. ومنها ما يظهر ليختفي ومنها ما يُعمر ليتجاوز أعمارَ قرائها. ومنها ما يرتبط بالأفراد ومنها ما تلتئم حوله الجماعات. المجلة ليست فقط عنوانا وورقا صقيلا. إنها، أكثر من ذلك، فكرة قد تكبر لكي تصير مشروعا يتبناه القارئ قبل صاحب المجلة.

15